الأحد، 30 مايو 2010

الملصق الجداري وإمكانية تفعيله اجتماعياً ( البصرة أنموذجاً )

ملخص البحث

تعد دراسة ( الملصق الجداري وإمكانية تفعيله اجتماعياً – البصرة إنموذجاً ) دراسة تحليلية لمجمل الملصقات الجدارية التي نفذها ثمانية من فناني البصرة بواقع (12 ) ملصقاً فائزاً من أصل (25 ) ملصقاً ضمن مسابقة نظمتها (جماعة نلتقي للثقافة والفنون ) في 20/7/ 2004 في المحافظة ، ومن ثم عُرضت الملصقات الفائزة في معرض البوستر في بغداد بتاريخ 25/أيلول /2004على قاعة أفكار.
وتتلخص الدراسة في كيفية تفعيل الملصق الجداري مع المجتمع فضلاً عن كيفية تهذيبه للمجتمع وإنعكاساته على مجمل الأمور التي تحيط به ( الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية والإرشادية وغيرها ) . لذا سعت الدراسة إلى تحديد مشكلة البحث والحاجة إليه بوصفها موضوعة لم يتم التطرق لها مع إنها موضوعة متجددة ، كما إن الملصق الجداري يتطور وفقاً لتطور الزمن وتطور المجتمع بكل جوانبه ، ولأنه عمل فني تشكيلي جمالي فهو خاضع لتقنيات واتجاهات مختلفة يفرزها الفنان ، وعلى وفق ذلك يطرح الباحث تساؤلاته في تحديد مشكلة البحث وهي .
1- ماهي ضوابط الملصق الجداري ؟ وماهي مرجعياته التي استقرأها الفنان ؟
2- ماهي الأسس الاجتماعية في التفاعل معه ؟
3- ماهي آلية تفعيله في المجتمع والارتقاء به ؟
وقد تجلت أهمية البحث في إمكانية تفعيل الملصق الجداري إجتماعياً وقابليته في تثقيف المجتمع ، بينما تحدد هدف البحث من الدراسة ذاتها ، كما حدد الباحث حدود بحثه بالمسابقة التي نظمتها جماعة نلتقي للثقافة والفنون في 20/ تموز/2004 وعددها (12) ملصقاً جدارياً ( الباحث هو أحد المشاركين بثلاثة ملصقات فاز منها اثنان ) . وقد حدد الباحث مصطلح الملصق لغة وإصطلاحاً ثم نحت له تعريفاً إجرائياً يتماشى مع الدراسة ، كل هذه الآلية وضعت ضمن الفصل الأول (الإطار العام للبحث ) . أما الفصل الثاني (الإطار النظري ) فقد تضمن مبحثين الأول –مفهوم الملصق وسماته الجمالية ، في حين تطرق في المبحث الثاني للملصق الجداري والمجتمع ، المرجعيات والتأويل . كما تحدد الفصل الثالث بإجراءات البحث وقد اختار الباحث المنهج الوصفي كونه يحقق الهدف وقد اعتمد الباحث أداة الملاحظة ، فنظم استمارة ملاحظة وعرضها على خمسة من الخبراء ( اثنان منهم متخصصون في مناهج البحث والثلاثة الآخرون متخصصون في جماليات الفنون التشكيلية ) أما مجتمع البحث فتألف من (12) ملصقاً جدارياً أنتقى منها الباحث (5) ملصقات تمثل عينة البحث التي تم تحليلها وصفياً.
أما الفصل الرابع فقد خلص الباحث إلى النتائج وناقشها كما يأتي .
1- نفذت الملصقات في أجهزة الحاسوب على برنامج (الفوتوشوبPhotoShop ) وطبعت بقياس 50 سم ×70سم.
2- ظهرت جميع الملصقات أنها تشترك بنظام فيه ثبات من حيث المفردات المستخدمة لأنها تشترك بمرجعية واحدة .
3- سعت الملصقات إلى تعضيد الصور الأيقونية بقصدية كامنة في بنية الصورة الطبيعية .
4- أعتمدت الملصقات إلى بناء جمالي غير أكاديمي بإلغاء معظم عناصر التكوين .
5- بفعل الاستعارات التي استخدمها الفنانون فإن عملية التلقي أزاحت التأكيدات الأخرى كاللون والخط والكتابة من خلال قراءة المفردات وتأويلها .
6- ناقشت الملصقات الجدارية المضامين الإنسانية مما أسست لها تفاعلاً جماهيرياً أغنى عملية التلقي ، وفي الوقت ذاته أغنت المجتمع علماً بما يحيطه .
وتأسيساً على النتائج أستنتج الباحث ما يأتي .
1- تمثل الملصقات الجدارية مفاهيم فكرية متداولة إجتماعياً تحمل تأويلاً فردياً أو جماعياً بوصفها ترجمة لوجدان المجتمع ، لذا يمكن اعتبارها ملصقات جماهيرية التلقي .
2- إن فهم الملصقات إجتماعياً باعتباره تجسيداً للأشكال المرئية يكشف عن رمزيتها وذلك تجلى في سعي الفنان بإنتزاع الأشياء من قيمها المتداولة ليؤولها إلى استعارات شكلية ذات دلالة .
3- إن العمل الفني يفترض قراءة وإستجابة وإضافة ذاتية لمحاولة إكتماله ذهنياً ، لأن العمل الفني ولاسيما الملصق الجداري أكثر إنتشاراً وتفاعلاً مع المجتمع ، لتتأسس إستنتاجات الباحث بإقتراب عملية التلقي من التوجه الرومانتيكي في الفن الذي يؤكد على إن العمل الفني يكتمل بعملية التلقي فيصبح أكثر جاذبية وعمقاً في إمكانية إستنفاذه وتعريفه .
4- تمثل الملصقات الجدارية كغيرها من الأعمال الفنية خطاباً دلالياً مكثفاً يستقرؤه المتلقي كحالة وسط بين المنتج الفني والفنان التشكيلي فتتضح بذلك عملية التفعيل من تداخل هذه القراءة .
كما أفرد الباحث عدد من التوصيات التي تؤهل الدراسة أن تأخذ مكانتها التطبيقية وقد عززها بالمقترحات .

الفصل الأول
الإطار العام للبحث
مشكلة البحث والحاجة إليه
تعد العملية الإبداعية لأي إنجاز فني يفرزه الفنان المبدع ذات تماس مع المحيط ( المتلقي ) بكل تنوعاته الثقافية وتراكمات ذهنيته مابين القبول أو النفور ، الاستحسان أو الرفض ، ولأن الفن إنجاز جمالي يتناغم مع الشعور الإنساني . فهو بالضرورة يتحمل أعباء التربية الذوقية للمجتمع على وفق آليات متعددة كالدراسة الجمالية والتواصل على المشاهدة الفنية الجمالية المختلفة للمنجز التشكيلي أو سماع الموسيقى أو غيرها من قنوات الإبداع الفني .
فالفن هو الرافد الأكثر إرتكازاً لبث الرقي الفني في سلوك الإنسان ومن ثم فهو القادر على طمس مظاهر الانحطاط السلوكي والأخلاقي في المجتمع ، لأن المجتمع على صلة مباشرة مع المنجز الفني ، وتكون المعادلة أكثر مشاركة وتنافذاً في الفنون التشكيلية لأن المتلقي يرى في المنجز اليدوي أكثر إتصالاً معه ، فضلاً عن تقديسه للحرفية في تنفيذ المنجز الفني إلا أن نسبية هذا الافتراض تتباين من منجز إلى آخر ضمن تفرعات التشكيل ، فالتفاعل مع اللوحة الزيتية ليس هو مع العمل النحتي أو الخزفي وإنها تتباين أكثر مع الملصقات الجدارية بوصفها أحد الفنون التشكيلية ( التصميم ) . وإنها بحكم تواجدها على الجدران في الشارع الذي لاتحده مع المجتمع آية حواجز فهي تتعامل مع شرائح المجتمع كافة .
فالملصق يتصل والمتلقي دون جهد أو عناء أو قصد في السعي إلى مشاهدته ،
لذا أفترضت هذه الدراسة آلية تهذيب المجتمع وإلتزامه بضوابط الملصق ( المضمون ) حال مشاهدته ، وما هي آلية تفعيله لدور المجتمع بحكم التنافذ في الطرح والاستقبال التي تستنتجها وتقرها العلوم النفسية وتستقرؤها ضمن آليات التلقي والتأويل .
وفي البصرة حصراً أخذت الملصقات الجدارية المتنوعة المضامين عام 2004 م مجالاً واسعاً ومطرداً في الانتشار لتصبح وسيلة إعلام تعين الفرد في المحافظة من الوقوع على مجمل الأمور السياسية والاقتصادية وغيرها ممن وضعته في الصورة الأشمل تهذيباً وإرشاداً في اتخاذ القرار على ضوء مشاهداته لأنواع الملصقات .
من هنا ارتأى الباحث التطرق إلى موضوعة الملصقات الجدارية في البصرة المنفذة عام 2004 م ( أي بعد انهيار سطوة الدكتاتورية ) وتحديداً الملصقات التي تبنتها جماعة نلتقي للثقافة والفنون وتحليل آليتها في التفاعل مع المجتمع البصري .
لذا سعت الدراسة إلى تحديد مشكلة البحث بوصفها موضوعة لم يتم التطرق إلى دراستها فضلاً عن إنها موضوعة نابضة بالحياة غير مستكينة لأن الملصق الجداري يتطور بتطور المجتمع ، كما إنه عمل فني تشكيلي جمالي خاضع إلى تقنيات واتجاهات الفنان المنفذ .
وعلى ضوء ذلك يطرح الباحث تساؤلاته الآتية في تحديد آلية صيرورة البحث وهي :
1- ماهي ضوابط الملصق الجداري ؟ وماهي مرجعياته التي يلجأ إليها الفنان ؟
2- ماهي الأسس الاجتماعية في التفاعل معه ؟
3- ماهي آلية تفعيله لدور المجتمع والارتقاء به ؟
أهمية البحث :
تكمن أهمية البحث في كشف إمكانية تفعيل المجتمع للملصق الجداري في محافظة البصرة وقابليته في تثقيف المجتمع وإطلاعه على الحيثيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البصرة والعراق الجديد .

أهداف البحث :
يرمي البحث إلى دراسة الملصق الجداري وإمكانية تفعيله إجتماعياً ، دراسة تحليلية .
حدود البحث :
يتحدد البحث بالملصقات الجدارية الفائزة بالمسابقة التي نظمتها جماعة نلتقي للثقافة والفنون في 20/ تموز/ 2004 م في البصرة وعددها (12) ملصقاً جدارياً .
تحديد المصطلحات :
الملصق :
لغــة .
لصق " ل ص ق (لصِق ) به بالكسر ( لصوقاً ) بالضم و ( ألتصق ) به و ( ألصقه ) به غيره "(1)

اصطلاحاً .
الملصق "عبارة عن صورة كبيرة أو إعلان في مكان عام ويراد فه في اللغة الإنكليزية POSTER "( 2 )

الملصق " مطبوع يصمم من أجل أن يفهم من نظرة سريعة . وهو يجمع مؤثرات بصرية مباشرة بوسائل مختصرة . ذات مقدرة على منافسة المحيط المشوش بصرياً ، ولكي يكون كذلك ينبغي أن يحتفظ بالوضوح والتميز ، فالملصق هو تعبير عن فكرة ، بسيط في تكويناته ، مكثف يتضمن عنصراً ذهنياً عميقاً"(3 ) .
الملصق " واحد من الأشكال التعبيرية ، ونشير بذلك إلى الوسائل الفنية المستخدمة التي تزيد من أهميتها دينامية الحياة العصرية بأحداثها المتتابعة في ضوء الثقافة الجمالية المعاصرة بقدر ما يسعى إلى تحقيق التجانس البصري الخالص أو نقل التجربة العينية عن طريق عملية تنظيم للواقع بنفسه أو بتثكيف القدرة على التراكم الجمالي والثقافي من خلال دمجه وتحقيقه لهذه العناصر المشتركة بهدف إستكمال وجوده الحقيقي في رصده لمظاهر حياتنا اليومية بأحداثها المتلاحقة "(4) .

التعريف الإجرائي
الملصق الجداري منجز تشكيلي جمالي يعتمد التصميمية في التنفيذ ضمن ضوابط تفرضها تنوعاته ، في حين يرتقي برمزيته لطرح مضامين يستل منها الشارع مفردات معرفية تبصره بما يحيطه وترشده للتمييز والصواب .


الفصل الثاني
الإطار النظري
المبحث الأول : مفهوم الملصق وسماته الجمالية
إن الإنجاز الفني الذي يفرزه الفنان لابد له من سمات تقويمية تجعل منه مادة قابلة للتأويل والقراءة ، فيمتلك الإنجاز بذلك مفهوماً جمعياً وذاتياً في آن واحد خاضعاً لمرجعية المتلقي وشخصيته وبذلك يفهم الإنجاز ويحدد عبر العديد من تعاريفه المتفق عليها ، كذلك هو الملصق فإنه فهم في قابليته الأشد تماساً لجميع الموضوعات الحياتية المتباينة ، لأن للملصق آلية طرح وإمكانية تأويل وقراءة، منها يمكن للملصق أن يحرك ذهنية المتلقي ويهذبه ويثقفه بمجريات الأحداث التي تحيطه لإتكائه على مرجعية الفنان المنفذ الذي يمتلك ذهنية متحركة تؤهله من قراءة ما يحيطه بتمعن وتكوين رأي
ذاتي للمجريات المحيطة بالمجتمع ، ولأن الفنان يمتلك حرية الطرح ضمن محيط يستقبل هذه الحرية فإنه يمتلك قابلية التأثير على المجتمع كما هي قابلية تأثير المجتمع على الفنان ، ولقد فرضت عملية تصميم الملصق على الفنان آلية تحليلية وتركيبية للعلاقات الشكلية والرموز المرجعية التي يفرضها المضمون باستنادها إلى الخزين الكامن في ذهنية الفنان ليصوغ
منها نظماً فعَلتها المدلولات التي آلت إليها على شكل علامات أيقونية ورمزية وإشارية ، ومن هذه التقسيمات العلامية وضع الفنان آلية خطابه للمجتمع .
إن الملصق إنجاز جمالي له ضوابط تفرضها تنوعاته تبعاً للمضمون الذي يطرحه والقضية التي تحتويها هيكليته التنفيذية ، فالحدث السياسي يفترض آلية تنفيذ تشتمل رموزاً وأشكالاً يقتضيها المضمون السياسي فضلاً عن المفردة الكتابية التي يوائمها الفنان إستكمالاً للمضمون ، كذلك الحدث الاقتصادي والصحي والإرشادي ، إلا أن السمات الجمالية التي ينتظم بها الملصق خاضعة إلى القيم الجمالية للتكوين (الإنشاء) فتنتظم عناصر البناء الجمالي في آلية لاتختلف عنها في العمل التشكيلي الآخر لاسيما الرسم . فالملصق عمل فني تصميمي يرتكز إلى عناصر بنائية منظورة كالخط واللون والشكل والفضاء والمادة مع ارتكازه إلى عناصر بنائية غير مرئية كالتوازن والحركة إلى جانب عنصر السيادة وغيرها. فالملصق يماثل العمل الفني التشكيلي في آلية التنفيذ وإستخدام الأشكال من خلال " توزيع الخطوط والألوان بصورة معينة داخل شكل يتضمن درجة معينة من الانتظام الدقيق من أجل التعبير عن الأفكار جمالياً ووظيفياً " ( 5 ) .
إن الملصق ـ بوصفه عمل فني ينحو حيال الاختزال في الخط واللون فيعتمد على أقل عدد من الألوان لإعتماده على رمزية المضمون التي تهيئ من الملصق قابلية تجعله مشاركاً في إكتمال قيمة الملصق وظيفياً ، وهذا لايعني تفرده بتقنية الإختزال ، بل لجأ معظم الفنانين المجددين إلى هكذا تقنية في أعمالهم الفنية ذات التقنية غير التصميمية . وقد تبوأت الأعمال المكانة العالمية لأن الإختزال نظام ذو قيمة جمالية عالية إلى جانب صعوبة تقنيته في إنجاز العمل الفني مما يميز الفنان المبدع عن غيره ، وقد يلجأ الفنان إلى مشاكسة عناصر التكوين وصولاً إلى الإختزال .

ا لمبحث الثاني : الملصق الجداري والمجتمع . المرجعيات والتأويل
تعد الرسوم الجدارية داخل الكهوف ، المنابع الأولى للرسم المعاصر ، وما يمثله من حالة اتصال مع المحيط ، بفرضه ضغوطات تؤثر في ذهنية الفنان تؤهله من إنتاج أعمال فنية تبث وعياً تميزه عمن سواه ، في حين يبقى الإنتاج الفني حال إكتماله محط تساؤل وتأويل يبثها المتلقي أياً كانت مرجعيته الثقافية . كما تمثل الإبداعات السومرية وخاصة الألواح
النذرية  إحدى الوسائل الإعلانية القديمة التي أبتكرها الإنسان العراقي القديم ( 6 ) ولقد تطورت الفنون المتنوعة تبعاً للتغيرات السلوكية والاجتماعية للإنسان ، فإنتقاله من العيش المنفرد داخل الكهوف إلى العيش الجماعي خارج الكهوف فرض عليه آلية ناسبت حياته الجديدة في السلوك والإحتياجات لأن الفنون تطورت بوصفها أجزاء متكاملة لتطور الإنسان الإجتماعي والثقافي فيذكر هيجل " إن الفنون والآداب ، مثل القوانين والنظم ، ما هي إلا تعبير عن المجتمع ، ومن ثم فهي مرتبطة بسائر عناصر التوسع الإجتماعي " (7 ) كما إن تجانسه مع المجتمعات الأخرى تؤهله من العيش على وفق هذا التجانس ، لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يكيَف ما يحيطه لمنفعته ولتسهيل آلية سلوكه لأنه ينحو حيال التكامل في الحياة الاجتماعية التي يغلب عليها طابع المشاركة بوصفه العنصر المكيف الأول "حيث تخضع حياة الفرد لرأي وتقويم المجتمع " (8 ) لذا فإن آلية الرسم أخضعت تقنياً وفكرياً إلى التطوير تبعاً لهذه المحددات ، كما إن إخضاع الرسم لهذه المحددات يعود بالأساس إلى التواشج في نسيج الإنسان السلوكي بوصفه كائناً غير مجزأ ، وإن تنامي بعض مهاراته تعود إلى فرص مؤهلة لها بالتنامي بفعل الحاجة أو بفعل التطور التقني لمعطيات تلك المهارة . هذه المهارات المتنامية للإنسان أفرزت العديد من القيم الجمالية التي أطرت الفنون التشكيلية برمتها ومنها الملصق الجداري الذي يمثل حالة أقرب إنجازاً ومفهوماً لمضمون العرض وما يبتغيه الفنان من طرح فكري لمشاركة المتلقي مع الإنجاز الفني وكيفية التعامل معه ، بمعنى أن الفنان بإستخلاصه الأسس التقنية للملصق الجداري ، لم يكن بمعزل عن الجذور التقنية للرسم الجداري داخل
الكهوف ، إلا أن تقنياته أخذت بالتطور تبعاً لتطور ذهنية الفنان والمتلقي المتراكمة بفعل المتغيرات السلوكية والإجتماعية لهما ، ولكون تقنيات الملصق الجداري أخذت تتسارع بالتجدد فإن التأويلات هي الأخرى أخذت تتسارع وتتباين على وفق هذا التجدد .
إن المجتمع بكل شرائحه لا يتقاطع مع الفن عموماً ، بل إنه أكثر تجاوباً وتقبلاً للملصق الجداري لأنه المحفز لشحذ قابلية المتلقي بما يؤهله لطرح أفكاره على وفق مشاهداته له بدون أية حواجز ، لما للملصق من قابلية ألإنتشار ، وإن عملية التلقي لايمكن تجاوزها لأن الملصق كغيره من الفنون التعبيرية يثير في المجتمع الشعور بالحركة والتواصل الجمالي في رصد البنى الإجتماعية والسلوكية اليومية التي تحفز الذهنية الفكرية والبصرية في إستشراف المستقبل على وفق الثقافة الجمالية والأيدلوجية من خلال التراكم في الثقافة الجمالية ، فالملصق " يستكمل وجوده الحقيقي كشكل مؤثر في رصده لمظاهر حياتنا اليومية بأحداثها المتلاحقة " (10) دون الوقوف عند حدود الدهشة المجردة لما يثيره من نشاط متدفق في الذاكرة ، لاسيما إن آلية العرض ليست بحاجة إلى تحفيز مسبق مثل تحديد المكان والإنارة المنتظمة والتهيئة للافتتاح أو غيرها من مكملات العمل الفني حال عرضه للجمهور ، فإن الملصق الجداري لايكلف سوى اللصق على الجدران مهما كانت ، دون التأكيد على الفراغ ( الفضاء ) والمساحة . هذا من جانب أما الآخر فإن عملية تقبل الجمهور للملصق متأتية من عدم العناء في عملية التلقي ، فالمتلقي وفي أثناء تأديته لبعض أعماله يمكنه مشاهدة الملصقات أينما كانت .
إن مدركات الإنسان ولاسيما الفنان تتنامى بنمو خبراته التجريبية ، وإستعاراته من المحيط تؤطرها تأويلاته وهي ذات مضامين إجتماعية على وفق تجانس المضمون مع الشكل ليشي بدلالات كامنة يستوحي منها البعد الإجتماعي ، فالمضامين الدينية هي حصيلة منتقاة من حياة المجتمع يفعلها الفنان في طرح إنجازات إبداعية تتكئ على القيم المرجعية الدينية وكذلك فإن المضامين الأخرى هي نواتج لحياة المجتمع يرتقي بها الفنان ويهذبها بآلية ينظم من خلالها أفكار المتلقي في كيفية قراءة البرامج التي تحاول المؤسسات طرحها عليه ، وهنا يقف المتلقي بين تأويلات متباينة قد تغفل أو تعجز تلك المؤسسات عن طرحها ، هذا التوافق بين ما تود طرحه مع الإنجاز ( الملصق الجداري ) لأن سمات الملصق الجداري ( العمل الفني ) تمتاز بخصائص إبداعية وجمالية وهما خصائص غير مقننة ومتباينة من ذهنية إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر تفرضه القيم السلوكية والاجتماعية للمجتمع . هنا يتحدد الإبداع بالنسبة للفنان عبر تحفيزه لمنظومات المتلقي الذهنية ، فقد حفز الفنان منظوماته الإبداعية ليؤسس خزينه المتراكم بمرجعياته نظماً تعبيرية وأنساقاً أطرتها دلالاتها فتتمحور
إنجازاته على رموز وتركيبات هي في ذاتها أنساقاً تفاعل معها المتلقي بنوع من الهامشية والإلغاء استطاعت الذهنية والتقنية المبدعة من تفعيل التواصل بما يفضي إلى الغائية المقصودة ، إذ حول الفنان النظم المركونة إلى نظم متحركة تحاور المجتمع ذهنياً . بوصفها نظماً جمالية أحالها الفنان إلى قيم إبداعية يؤطرها انتماؤها للمجتمع لأن " الفن السليم ينبع دائماً من وقائع الحياة الاجتماعية " (11) .
إن الملصق الجداري بوصفه وثيقة حية تجاوز النقل الشفاهي أو المكتوب لما يشوبهما من تدليس أو إضافة أو حذف تفرضها أيديولوجية ما . وتأسيساً على ذلك يمكن استشفاف التواصل مابين الملصق الجداري والمجتمع على إنه يرتكز على مجموعة من القيم الفكرية والجمالية والتي يمكن تلخيصها بما يأتي .
إن الملصق الجداري فرز موضوعي لمعطيات المجتمع تؤطره وتوؤله الذهنية الإبداعية للفنان ، فضلاً عن تأطيره بالتلقي الواعي وتهذيبه للذهنية الراكدة في تبنيه معطيات مرجعية وخامات متناولة . وفضلاً عن ذلك إن آلية التنفيذ ترتكزعلى الآلية التقنية في إنجاز الملصق ، والتي تتنامى تقنياً إستجابةً لمستحدثات العصر ، إذ أن جهاز الحاسوب عبر برمجياته ( الفوتوشوب PhotoShop و كورال درو CorelDraw ) حل محل التقنية اليدوية التي تعد هي الأبدع بالرغم من صعوبتها ، لأن الفن إنجاز يدوي التنفيذ ، بيد أن تقنيات الحاسوب لا تقلل من شأن الملصق الجداري مع صعوبة اشتغال معظم الفنانين على أنظمة البرمجيات مما يؤدي إلى استعانتهم بمشغلي البرمجيات الإلكترونية ذات المساحة الأوسع تجريباً في اللون والخط وميكانيكية توزيع الأشكال وغيرها من مفردات الملصق .

الفصل الثالث
إجراءات البحث

المنهج المستخدم : تبنى الباحث المنهج الوصفي كونه يحقق هدف الدراسة الحالية .
أداة البحث : اعتمد الباحث الملاحظة الميدانية بعد عرض استمارة الملاحظة على الخبراء 
مجتمع البحث : بعد حصر مجتمع البحث في ضوء المسابقة التي نظمتها جماعة نلتقي للثقافة والفنون في 20/تموز/2004 والبالغ عددها (25) ملصقاً جدارياً ، وبعد إعلان نتائج المسابقة تم فرز (12) ملصقاً جدارياً فائزاً لـ (8) فنانين منهم (4) فازوا بملصقين في حين فاز الآخرون بملصق واحد وقد علقت على جدران بنايات مدينة البصرة في الشارع بعد طباعتها .
عينة البحث : أختار الباحث (5) ملصقات بوصفها عينة قصدية تمثل مجتمع البحث ل(4) فنانين وهم
1- جنان محمد احمد ملصقان
2- مناف حسين ملصق واحد
3- حسين شعاع ملصقان
أسباب اختيار العينة :
اختيرت العينات الخمسة للأسباب الآتية
1- تحييد وإستبعاد ملصقي الباحث توخياً للعلمية .
2- تنوع مضامين الملصقات .
3- تنوع آلية إستخدام الأشكال .
4- تنوع البناء الجمالي ( التكوين ) في الملصقات .

تحليل العينات :

عينة (1) العراق الجديد
ملصق جداري بقياس 50سم×70سم نفذته الفنانة جنان محمد احمد بطريقة اللصق Collage وتمت معالجته في جهاز الحاسوب على برنامج ( الفوتوشوب PhotoShop ) .
وقد اعتمدت آلية خطاب الملصق على التوافق مابين الطفولة بوصفها عفوية الرؤية وعفوية الانتماء للوطن ، لذا سعت الفنانة إلى كشف انتماء الطفولة للوطن عبر عفوية الرؤية وقصديتها من خلال التأكيد على زاوية النظر إلى الأعلى
( الشمس المشرقة) وقد أحالتها إلى خارطة العراق مع النص الكتابي الذي خط بنسخ المطابع وقد أستعير من جهاز الحاسوب .
كما اعتمدت هيكلية الملصق إنشائياً وجمالياً إلى الإنشاء المفتوح لتجاوبه مع متطلبات المضمون ، ونظراً لعملية التلصيق فإن الإضاءة التي أصطبغ بها الملصق توحي بالبهجة مع تجاهل الدراسة الأكاديمية للظل والضوء .
إن القراءة المفترضة للملصق وبالرغم من وضوح بنى ومضامين المفردات المستخدمة للمتلقي إلا إن الملصق لايمكن قراءته دون تأمل يتواءم مع المرجعية الثقافية للمتلقي ، وإنها عملية نسبية غير مقننة ، لذا أفترض الفنان البصري انتماءه لمدينته ووطنه مع انتمائه للإنسانية الأعم .
لذا يعد الملصق من المنجزات التي تثير التساؤل والدهشة ، ومنه فإنه سيشير القراءة والتأويل وبالنتيجة يعد ملصقاً غير هامشي يحمل موضوعية فضلاً عن الجمالية التي أرتكز إليها بتوازن الأشكال وإستقرارها .

عينة (2) ابتسموا يا أولادي فالمستقبل لكم
ملصق جداري بقياس 50سم×70سم نفذته الفنانة جنان محمد احمد بطريقة اللصق Collage وتمت معالجته في جهاز الحاسوب على برنامج ( الفوتوشوب PhotoShop ) .
أرتكز خطاب الملصق في معالجة السطح التصويري بأسلوب بسيط تنفيذاً ومضموناً لغرض تفعيل عملية التلقي بسبب التعاطف مابين المجتمع ومفردات الملصق ( الشيخ والأطفال ) وبأسلوب الجمع مابين صورة الشيخ وصور لأطفال مختلفي البيئات .
تتشكل هيكلية الملصق بإبتعادها عن الإنشاء المدروس ( الأكاديمي ) إذ أفترضت الفنانة تهميش عناصر البناء الجمالي الأكاديمية لغاية وظيفية على وفق الاستجابة وتفعيلها والتحفيز على المشاهدة ولغاية مضمونية بإرتكازها على العنوان الذي أعتمدته الفنانة في النص الخطابي وحميميته ، أما الغاية التنفيذية فقد سعت إلى إلصاق صورة الشيخ وتحديدها بحجم أكبر من جميع الصور المحددة بينما وزعت صور الأطفال بأسلوب متناثر عفوي متجاهلة أكاديمية الظل والضوء إلا في إنفراد الصور عن بعضها .
لقد كانت إستعارة الفنانة أيقونية عبر إدخال الصور إلى الحاسوب مما جعلها تغفل حالة التوافق في التنفيذ لاسيما أن برنامج الحاسوب المستخدم بإمكانه تجاوز هذه الحالة بإلغاء حدود كل صورة وبالخصوص صورة الشيخ .
إن عملية تلقي الملصق قد تحظى بحضور وافر لما للملصق من توجه تعبيري تجسدت في الصور ، لذا أعتمدت عملية التلقي على قراءة مباشرة غير قابلة للتأويل لمعرفة المتلقي بمحلية الصور التي مهدت إلى إرتفاع نسبية التلقي .

عينة (3) نحو أمل بالسلام
ملصق جداري بقياس 50سم×70سم نفذه الفنان مناف حسين بطريقة اللصق Collage وطبع بعد معالجته على برنامج ( الفوتوشوب PhotoShop ) .
يتأسس الملصق من خارطة العراق تحيط بها مجموعة من الحمائم البيضاء ، ولمعرفة المتلقي بهذه المفردات وما تعني ، يمكن قراءة الملصق بيسر من دون عناء ولشريحة كبيرة جداً من المجتمع .
وتمثلت هيكلية الملصق البنائية بإعتمادها على مركزية الرؤية بمعنى توجيه النظر إلى المركز (الخارطة ) ثم ينتشر شعاعها إلى المحيط كتصور يرتئيه الفنان أن الحمائم البيضاء علامة رمزية للسلام وأن تطايرهن بهذا الشكل يوحي بإشعاع السلام والأمن من العراق ولاسيما بعد معالجة الإنارة بإشعاعها من المركز .
كذلك يمثل الملصق حالة التواصل بين المجتمع وتأويلات الفنان لإنجازه الفني بمسحته البسيطة والمضمون الأعمق بعد تعضيده بكلمات خطت بنسخ المطابع المستعار من الحاسوب . كما أعتمد الفنان في إنجازه على مفردات أدخلت إلى الحاسوب كالخارطة والطيور التي تركها تسبح في فضاء مفتوح . وربما لو وضعت الخارطة أسفل الملصق ووضعت الطيور في حالة تطاير إلى الأعلى لأصبحت تقنيتها أفضل لأن الحمائم في الأسفل توحي بالتساقط والهوي نحو الأسفل .
إن إستعارة الفنان الرمزية عضدت من تقبل المجتمع للملصق خلال قراءة المفردات وفقاً لخزينه المعرفي لهذه المفردات بوصفها مفردات عراقية (الخارطة ) وإنسانية ( الحمائم ) لذا إرتفعت عملية التفعيل إلى أشدها لدى المجتمع .



عينة (4) أرضنا أرض الخير والعطاء
ملصق جداري بقياس 50سم×70سم نفذه الفنان حسين شعاع بطريقة اللصق وقد ألغى المبرمج آلية اللصق بإلغاء حدود الأشكال ومن ثم أحالها إلى هذا الشكل وطبع بعد معالجته على برنامج ( الفوتوشوب PhotoShop ) .
أعتمد الفنان في خطابه على المباشرة في الطرح من خلال محاكاة الطبيعة عبر مفردات عايشها وتآلف معها صميمياً ( الكوخ والقصب والماء والنخلة ) بوصفها معايشة وقد تآلف المجتمع البصري عليها ، وهو تعبير عن إنتماء الفنان والمجتمع للأرض والوطن بطرح سهل التقبل والقراءة ، لذا أبتعد الفنان عن المنظور السياسي الصرف وأتجه حيال التوجه الإعلاني . كما تشكلت هيكلية التصميم البنائية إلى التكوين العشوائي غير الأكاديمي لعدم إعتماده على العناصر الجمالية للبناء ، فوضع كتلة الكوخ في الأعلى ووضع بقية الأشكال بإسترسال تراتبي تحت الكوخ .مما يوحي أن الملصق أبتعد عن ذهنية الفنان وأتجه حيال آلية تصميم المبرمج .
إن قراءة الملصق لا تحتمل التأويل لأنها قراءة لمفردات معاشة لا تستوجب الترميز ، لذا لايمكن للملصق أن يثقف المجتمع بمفردات يعهدها ويعرفها جيداً في حين يمكن للمجتمع أن يفعل الملصق للسبب ذاته .

عينة (5) البصرة بيت الفكر والتأريخ
ملصق جداري بقياس 50سم×70سم نفذه الفنان حسين شعاع بطريقة اللصق Collage بعد إدخال الأشكال إلى جهاز الحاسوب ،وقد وفق المبرمج نسبياً بتوزيع الأشكال فضلاً عن إلغاء حدود صوره المركبة ،كما طبع بعد معالجته على برنامج ( الفوتوشوب PhotoShop ) .
يقترب خطاب الملصق من خطاب العينة (4) ولاسيما أنهما للفنان ذاته أو المبرمج ذاته إلا إن العينة (5) تعد أكثر نضجاً في الطرح ومن جوانب عدة أهمها إبتعادها عن المحلية الصرفة ( البصرة ) وإرتكازها إلى التاريخ القديم ( المنارة المفصصة) على اعتبار إن التأريخ ملك المجتمع برمته .
أما الجانب الآخر فإن التوزيع الجمالي للأشكال يحمل وعياً جمالياً ليس هو في العينة (4 ).
كما أشترك الملصقان في الجانب الإعلاني على الرغم من إتصال الأخير بالجانب التأريخي والفكري للمجتمع العراقي وقد يؤطر البصرة مدينة فكر وتأريخ. لذا أبتعد الملصق عن القراءة التأويلية من خلال محاكاة الفنان للموجودات التاريخية وللطبيعة ، ولهذا يمكن تفعيل المجتمع للملصقين بنسبية معتدلة كونهما عرضا أشكالاً غير رمزية ومقروءة من دون جهد أو عناء يذكران ، وللسبب ذاته يمكن تحاشي الملصقين أو تهميشهما بسبب الخزين المتراكم لهذه المفردات لدى المجتمع .


الفصل الرابع
النتائج والاستنتاجات
النتائج ومناقشتها
خلص الباحث إلى النتائج الآتية .
1- نفذت جميع الملصقات على أجهزة الحاسوب على برنامج (الفوتوشوبPhotoShop ) وطبعت بقياس واحد 50سم ×70سم.وذلك لمعرفة الفنانين وما ستؤول إليه الملصقات تقنياً لأن التنفيذ الآلي يفضي إلى نتائج جمالية .
2- اعتمدت بعض الملصقات في النص الكتابي على خط نسخ المطابع في حين ظهرت الأخرى بخطوط أخرى وجميعها مستخرج من خطوط جهاز الحاسوب توخياً للدقة والجمالية التي تمتاز بها خطوط الحاسوب . وفي الفقرتين ( 1 ، 2) لايمكن الركون إلى مسألة ابتعاد الملصقات عن الإبداع على أساس أن الفنانين لم يباشروا العمل على برامجيات الحاسوب ولم ينفذوا عملية كتابة الخطوط لأنهم لا يعدون من الخطاطين ن، لذا فإنهم يلجأون إلى آخرين في عملية التنفيذ .
3- تبين أن الملصقات جميعها تشترك بنظام فيه ثبات من حيث المفردات المستخدمة لأنها تشترك بمرجعية واحدة . غنى هذه المرجعية يعد نضوجاً في ذهنية الفنان في حال استعاراته منها .
4- سعت الملصقات إلى تعضيد الصور الأيقونية بقصدية كامنة في بنية الصورة الطبيعية الكامنة في ذهنية الفنان المتقدة وذهنية المتلقي على حد سواء ، سوى أن الفنان يفعلها بما تؤول إليه عملية تفعيل رؤية المتلقي .
5- اعتمدت الملصقات على بناء جمالي غير أكاديمي بإلغاء معظم عناصر التكوين . فالملصق يتجاوز بقدراته التنفيذية بتحفيز تقنية الفنان للملصق فتؤدي إلى الاختزال بوصفه قيمة جمالية تجاوز المألوف .
6- بالرغم من إستخدام أشكال أدخلت إلى الحاسوب إلا أن الاستعارات تباينت مابين الأيقونية والرمزية والإشارية .كتحصيل حاصل لخزين الفنان والمتلقي .



أما ما يخص تفعيل المجتمع للملصق الجداري ، فإن الباحث توصل إلى النتائج التالية .
1- بفعل الاستعارات التي استخدمها الفنانون فإن عملية التلقي أزاحت التأكيدات الأخرى كاللون والخط والكتابة من خلال قراءة المفردات وتأويلها .بوصفها قيماً عرضها الفنان على المتلقي بغية التوافق معها .
2- ناقشت الملصقات الجدارية المضامين الإنسانية مما أسست لها تفاعلاً جماهيرياً أغنى الملصقات ، وفي الوقت ذاته أغنت المجتمع علماً بما يحيطه . لأنها نتيجة متوخاة تفترضها إنسانية الفنان ومشاركته المجتمع همومه . وبوصفه قادراً على قراءة ما يحيطه بصورة أكثر موضوعية ، مما يؤدي إلى مخاطبة المجتمع بأدواته الفكرية والجمالية .
الاستنتاجات
وتأسيساً على النتائج أستنتج الباحث ما يأتي .
1- تمثل الملصقات ألجدارية مفاهيم فكرية متداولة إجتماعياً تحمل تأويلاً فردياً أو جماعياً بوصفها ترجمة لوجدان المجتمع ، لذا يمكن اعتبارها ملصقات جماهيرية التلقي .
2- إن فهم الملصقات إجتماعياً باعتباره تجسيداً للأشكال المرئية يكشف عن رمزيتها وذلك تجلى بسعي الفنان بإنتزاع الأشياء من قيمها المتداولة ليؤولها إلى استعارات شكلية ذات دلالة .
3- إن العمل الفني يفترض قراءة وإستجابة وإضافة ذاتية لمحاولة إكتماله ذهنياً ، لأن العمل الفني لاسيما الملصق الجداري أكثر إنتشاراً وتفاعلاً مع المجتمع ، لتتأسس إستنتاجات الباحث بإقتراب عملية التلقي من التوجه الرومانتيكي في الفن الذي يؤكد على إن العمل الفني يكتمل بعملية التلقي لأن العمل الفني غير المكتمل أكثر جاذبية وعمقاً لعدم إمكانية إستنفاذه وتعريفه .
4- تمثل الملصقات الجدارية كغيرها من الأعمال الفنبة خطاباً دلالياً مكثفاً يستقرؤه المتلقي على إنه حالة وسط بين المنتج الفني والفنان التشكيلي فتتضح بذلك عملية التفعيل من تداخل هذه القراءة .

التوصيات
بالنظر لأهمية النتائج التي خلص لها الباحث يوصي بما يفعَل الملصق إجتماعياً وكما يأتي .
1- إستحداث قسمين تخصصيين للتصميم والطباعة ( الكرافيك ) في كلية الفنون الجميلة وتهيئة الكوادر المتخصصة ، وعدم الإكتفاء بدرس (الكرافيك) الذي لايفي بالغرض المنشود لعدم وجود المتخصص منذ تأسيس الكلية في جامعة
البصرة . مع حث الطلبة على الإنضمام إلى هذا القسم لما يحمل من مضامين جمالية في التنفيذ والعرض قد تفوق الأقسام التشكيلية الأخرى .
2 - تهيئة كوادر متخصصة في تشغيل برامجيات الحاسوب ضمن استحداث قسم التصميم مع توسيع دائرة المعرفة عبر دورات مكثفة وموسعة للعمل على برامجيات التصميم في الحاسوب ..
3- يوصي الباحث بدراسة الأسس الجمالية لتجميل المحافظة وتفعيلها .كما هو معتمد في معظم بلدان العالم ل وبالأخص دول المغرب العربي التي زينت جدران مدنها بالتصميمات والرسوم الجدارية من قبل الفنانين .ولآلية العمل يجب التنسيق بين المحافظة وكلية ومعهد الفنون وجمعية الفنانين التشكيليين في البصرة والإعداد لهذه الدراسة وعدم تهميشها بالاعتماد على مجموعة تدَعي الفن والإبداع .

المقترحات
1- يقترح الباحث أن تكلف لجان متخصصة من المؤسسات الفنية في المحافظة وبالتعاون مع الجهات الإعلامية في المؤسسات الأخرى للمحافظة لوضع ضوابط آلية في عملية تثبيت الملصقات على الجدران في الشارع ، وأن تكون مدروسة ،لا كيفية ، مع توعية الجميع من عدم كتابة الشعارات ولصق الصور الشخصية فضلاً عن تحديد الوسائل
2- الإعلانية ولاسيما أسماء المحلات التجارية بالضوابط ذاتها لما لها من مظاهر ليست جميلة ، كما يستوجب توعية أصحاب الشأن جمالياً في تثبيت الملصقات في أماكن مناسبة بالنسبة للضوء والفضاء وغيرها .
3- يقترح الباحث باستكمال دراسة الجوانب الأخرى في التصميم الجداري كل حسب فهمه .





الملاحق
ملحق 1
جماعة نلتقي : مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني تمتلك شخصية مستقلة وتسعى لبناء ثقافة وطنية ديمقراطية حرة لا ترتبط بأي أيديولوجية أو صيغة مؤسساتية .
تأسست بعد أن اتفق مؤسسوها على أن تكون مصدر اللقاء لفناني وأدباء ومثقفي البصرة .. لكي يعبروا في هذا الزمن الرمادي عن أملهم المنشود في الحرية . وقد أسهمت هذه الجماعة من خلال نشاطاتها في إبراز أهمية المجتمع المدني في بناء العراق الجديد ومن نشاطاتها إقامة معرض البوستر السياسي في20 تموز 2004 على قاعة فندق المربد في البصرة لنشر الوعي الاجتماعي بين أبناء المجتمع من خلال حملة لصق البوسترات التي تتحدث مواضيعها عن الإنسان العراقي الجديد . إذ عرض (25 ) ملصقاً في مسابقة فازت منها (12) ملصقاً ل (8) فنانين من البصرة. وأعيد عرض البوسترات الفائزة ال (12) في 25 ايلول 2004 على قاعة افكار في بغداد.




ملحق 2

الأستاذ الفاضل المحترم
يروم الباحث بناء أداة بحثه الموسوم ( الملصق الجداري وإمكان تفعيله إجتماعياً- البصرة أنموذجاً – دراسة تحليلية ) وهي استمارة ملاحظة ميدانية ، وةد تم تثبيت بعض البنود للأداة حيث ارتأينا أن نعرض عليكم هذه الأداة لما نعهدكم فيه من خبرة علمية ، فضلاً عن كونكم أكثر المعنيين إتصالاً وإهتماماً بهذه العملية ولما تتصفون به من تعاون في المجالات التي تعود بالفائدة العلمية .
لذا يضع الباحث هذه الأداة أمامكم ونرجو أن يكون تعاونكم معنا خدمة للبحث العلمي .


المدرس
أزهر داخل محسن

إستمارة ملاحظة
يروم الباحث تقصي الجوانب الجمالية والتقنية ( فيما يخص آلية التنفيذ ) والجانب الإجتماعي (فيما يخص عملية التلقي) على وفق ما يأتي :
أولاً : آلية التنفيذ يصلح لا يصلح الملاحظات
أ‌- الجانب الجمالي
* العناصر الجمالية للتكوين
الإنشاء
1- مغلق
2- مفتوح
3- مركزي
4- أخرى تذكر
الخط واللون والظل والضوء والتوازن والفضاء
1- دراسة أكاديمية
2- عشوائية
3- أخرى تذكر
* الكتابة
1- الخط حسب القاعدة
2- خط نسخ المطابع
3- غير خاضع لقاعدة
ب – الجانب التقني
1- استخدام مفردة الحاسوب
2- استخدام مفردة خارجية
3- تحوير المفردة
4- استعارة العلامة
ثانياً : عميلة التلقي
أ – اعتمد المتلقي على
1- محاكاة المفردة
2- تأويل المفردة
3- تهميش المفردة
4- التأكيد على اللون
5- التأكيد على الكتابة
6- التأكيد على الكتابة واللون
ب‌- الجانب الإجتماعي . تعامل المجتمع مع الملصقات على وفق ما يأتي
1- محلية صرفة
2- عراقية صرفة
3- إنسانية
4- سياسية
5- تاريخية
6- غيرها تذكر
ج - نسبية عملية التلقي




المصادر

1- محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي. مختار الصحاح.رتبه محمود خاطر .دار التراث العربي للطباعة والنشر. القاهرة.السنة بلا .ص 597 .
2 OXFORD word power. University press. P (571). –
3 - ضياء العزاوي . فن الملصقات في العراق .وزارة الإعلام . السلسلة الفنية (26) . مطبعة الأديب .بغداد 1974 ص 11.
4- محمد تعبان .قوة الملصق. مجلة الرواق العدد/6 تموز 1979 .مؤسسة رمزي للطباعة .دائرة الفنون التشكيلية .بغداد ص 24 .
5 -د. أياد حسين عبدالله الحسيني . التكوين الفني للخط العربي وفق أسس التصميم . دار الشوؤن الثقافية العامة . مطابع دار الشوؤن الثقافي . بغداد .2002 .ص11.
6 - د. زهير صاحب .الفنون السومرية . إيكال للطباعة والنشر . بغداد 2004 ص 141 .
7 - توماس مونرو . التطور في الفنون ج 1 .ترجمة محمد علي أبو درة ،لويس اسكندر جرجس ،عبدالعزيز توفيق جاويد . راجعه ، أحمد نجيب هاشم . الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1971 ص 129.
8 - د. زهير صاحب .الفنون السومرية. ص 51.
9 - د .ثروت عكاشة الفن العراقي القديم .سومر وبابل وآشور . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . مطبعة فينيقيا . بيروت السنة بلا ص 158-160.
10 - محمد تعبان .قوة الملصق. ص 24 .
11 - توماس مونرو. التطور في الفنون ج 1.ص 241.
12 - دليل جماعة نلتقي .

2006

نشر في مجلة دراسات البصرة 2006

الموروث الشعبي في الفن التشكيلي لدول مجلس التعاون الخليجي

ملخص البحث

إن دراسة الخطاب التشكيلي لدول مجلس التعاون الخليجي وكيفية تعامله مع الموروث الشعبي تكشف عن حالة من الضغط البصري يؤطره المنجز التشكيلي بصيغ جمالية . تعد وثيقة صادقة للعديد من الظواهر التي غيبت بعضها جوانب المدنية والمعاصرة ، وان كانت المعاصرة تزداد غنىً بهذه الظواهر المجسدة كخطاب تشكيلي إبداعي أنجزها فنانون تشربوا بواقع تسوده الآلفة والطمأنينة بفعل تمازج النسيج الاجتماعي واعتدال التوازن الاقتصادي ، لذا كانت وما زالت القيم المتأصلة في المجتمع الخليجي هي ذاتها وان غزتها المدنية من أوسع الأبواب وبكل صنوفها، ولغرض الدراسة الموضوعية أشتمل البحث أربعة فصول. تضمن الأول الإطار العام للبحث محدداً فيه المشكلة والتساؤلات التي أسفرت عنها ثم الأهمية وآلية تحديدها ، وحددت أهداف البحث من خلال استشراف القيم الفكرية والجمالية في تحليل المنجز بمرجعياته الفكرية والتقنية عبر تقصي الموروث الشعبي لدول مجلس التعاون الخليجي في المنجز التشكيلي المعاصر .
وقد اقتصرت حدود البحث على ثلاث من دول المجلس ما بين الخمسينيات حتى نهاية القرن العشرين .
أما الفصل الثاني. الإطار النظري تطرق الباحث الى مفهوم الموروث الشعبي ضمن المبحث الأول أما المبحث الثاني فتطرق الباحث إلى الفن التشكيلي في دول المجلس على وفق الأسس والمعطيات وارتكازه الى المحيط بوصفه عملية ضاغطة في الخطاب الجمالي الخليجي .
بينما تضمن الفصل الثالث إجراءات البحث والمنهج المستخدم ومجتمع البحث وعينته وأداة تحليل العينة والية التحليل التي اقتصرت على عدد عينات البحث البالغة ( 7 ) توزعت بعدد ( 3 ) عينات من دولة الكويت وعينتان لكل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين .
أما الفصل الرابع تضمن نتائج البحث والاستنتاجات وهي كالآتي :-
1- إن التشكيل الخليجي ارتكز الى قيم فكرية تكمن في كينونة المجتمع .
2- انتهج الفنان الخليجي تقنيات غربية معاصرة بفعل المشارب الأكاديمية التي
تلقاها .
3- المزاوجة بين التقنيات المعاصرة والثيمات الواقعية والموتيفات الشكلية
والأساطير المحلية لتؤول الى قيم تشكيلية جمالية متفردة .




ثبت المحتويات


ملخص البحث …………………………………………………
الفصل الأول : الإطار العام للبحث 1
مشكلة البحث والحاجة إليه ………………………...1 – 2
أهمية البحث ……………………………………..2 _ 3
حدود البحث ……………………………………...3
الفصل الثاني : الإطار النظري 4 _ 10
المبحث الأول : مفهوم الموروث الشعبي …………….4 _ 7
المبحث الثاني : الفن التشكيلي في دول مجلس التعاون
الخليجي ………………………… 7 _ 10
الفصل الثالث : إجراءات البحث 11 _ 18
منهج البحث ……………………………………11
أداة البحث ……………………………………...11
مجتمع البحث ……………………………………11
عينة البحث ……………………………………..11
أسباب إختيار العينة ……………………………….11
تحليل العينات ……………………………… 12 _ 16
الفصل الرابع : النتائج والاستنتاجات 17 _ 18


المصادر 19 _ 20
النماذج ( عينة البحث ) 21 _ 24










الفصل الأول
الإطار العام للبحث
مشكلة البحث والحاجة إليه :

إن الإنجازات التي خلفتها الشعوب المتجذرة عبر العصور كبير جدا ، يتداول قيمها ابناء المجتمع في الوقت الحاضر بوصفها مفردات حضارية موروثة تداولاً لا ينحصر في طبقة معينة ، والتعامل معه يتم بطرق عدة عبر الفنون والآداب ، فالموروث الشعبي لأي مجتمع كبيراً كان أم صغيراً يمثل الأساس الذي يرتكز إليه المجتمع المعاصر في النهوض والنمو ، ومنه يمكن دراسة القيم الثقافية والإبداعية لأي مجتمع بوصفها منتجات إنسانية فضلا عن قيمتها الوطنية .
ولقد أُثريت دول مجلس التعاون بالقيم التراثية المتراكبة والمتراكمة بفعل الجغرافية إذ اتصل تأريخها بأخصب المجتمعات حضارة وتراثا تلاقحت فيما بينها مؤطرة لمجتمع الخليج والجزيرة العربية بعدا حضاريا متميزا يعد نضحًا للحضارات التي اتصلت به وقد تفاعلت مع البيئة المحلية ليتجسد منها الموروث الشعبي مادة غنية تثري الباحثين بالاستزادة في معرفة ماهية المفردات الحياتية للمجتمع.كان نصيب منطقة دول المجلس العديد من الموروثات الشعبية جراء تعدد المصادر المولدة لهذه الموروثات التي تتصل بطبيعة المجتمع كالحرف والمهن فضلا عن الأساطير القديمة والحكايات الشعبية ذات البعد الواقعي والخيالي تبرزها روايات تغذي المبدعين في البحث عن ماهيتها الاجتماعية ، ويعد المجتمع المعاصر في دول مجلس التعاون اكثر اتصالاً بالموروث مع تنامي الحالة الاجتماعية والاقتصادية لان الموروث يمثل هوية الفرد وهوية مجتمعه ، لذا يندر تجاوز الفرد الخليجي لعناصر الموروث ، فإقتناء الموروثات الحرفية من قبل المجتمع الخليجي تتنامى فضلاً عن مزاولته للطقوس الفلكلورية من موسيقى وغناء ورقص وشعر ، أما اتصال أبنائه والأماكن التراثية لا تنقطع لان الإنسان في الخليج مهما تنامى اقتصادياً واجتماعياً لا نراه ينسلخ عما توارثه عن أجداده ، لإيمانه بهم واعتزازه الكبير بالأجداد ، فيرى وجوده في اتصاله بالموروث المحلي .
والفنان التشكيلي عنصر فاعل سعى الى قراءة المورث وتسجيله ضمن تقنيات وأساليب نهجية معاصرة وفقا الى المشارب التي نهل منها تقنيته ورؤيته للفن إذ كانت خطاباته التشكيلية خير مستلهم وموثق لتركيبة المجتمع المتوارثة بكل دلالاته العميقة أسطورية كانت أم فلكلورية ، لإيمانه المطلق بالتقاء المبدع والمادة التراثية لان " التراث هو تراكم حياتي وطاقة روحية جياشة ، زمن محتقن بالدلالات والغنى والتوتر …والتراث معين مهم من الناحية الجمالية والفنية واستلهامه يؤكد وحدة التجربة الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل ".(م1ص34 )
إن مشكلة البحث ذات صلة بالمجتمع وعلاقته بالتشكيل الخليجي يتكشف من خلالها مدى قابلية الفنان في تسجيل الموروث الشعبي وماهيته في تعزيز صلة الفرد بمجتمعه وتراثه .

أهمية البحث :

وفقاً لمشكلة البحث تتحدد أهمية البحث في تعريف المتلقي بالقيم التشكيلية المعاصرة لفناني دول مجلس التعاون الخليجي واتجاهاتهم التقنية والنهجية في رصد الموروث الشعبي المحلي .

أهداف البحث :

تتحدد أهداف البحث للتوصل الى ما يأتي :-
1- استشراف القيم الفكرية والجمالية في الموروث الشعبي الخليجي .
2- تحليل المنجز التشكيلي بمرجعياته الفكرية والتقنية .
3- تقصي الموروث الشعبي في المنجز التشكيلي المعاصر .


حدود البحث :

حدد البحث بـ
أ- الحدود المكانية : اقتصر على ثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي وهي
دولة الكويت والمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين .
ب- الحدود الزمانية : شملت الفترة المحصورة ما بين الخمسينيات من القرن
العشرين وحتى نهايته .







الفصل الثاني
الإطار النظــري

المبحث الأول : مفهوم الموروث الشعبي
الموروث الشعبي قيم إنسانية تعامل معها الإنسان منذ القدم عن طريق الممارسات الحياتية والطقوس الدينية ، وقد انتقلت إلى الأجيال اللاحقة عبر آليات عديدة، استطاعت الفنون أن تفعّلها بعمق على وفق أساليب ومناهج مختلفة في المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل والحركات الراقصة . هذا التفعيل تولّد من قناعات مرتكزة في ذهنية الفنان .أن الموروث يعد بنية المجتمع وهيكليته الأساسية اجتماعياً وتاريخياً وسياسياً وفلسفياً وخلقياً ،كما لاتحيد السلوكيات الموروثة عن كونها جهد إبداعي حفّز الفنان المعاصر من استقصائه محاولاً تجديد رؤيته الإبداعية وصولاً إلى الأصالة ، وإن كانت أصالة الموروث متأتية من تجاوزه الأنظمة السياقية الزمنية وديمومته تعد أحد مرتكزاته في الأصالة .
لذا ظهرت الدراسات التي تعنى بالموروث منذ زمن بعيد حينما فُعّلت العلوم التي تتقصى العلاقات والسلوكيات الإنسانية والتي تبحث خصائص الإنسان وارتباطاته مع ما يحيطه من كائنات ، وقد ارتبط مصطلح الموروث ومفردة (الفولكلور ) عام 1877إبان تأسيس جمعية الفولكلور الإنكليزية في لندن ، وكان علم الاجتماعSOCIOLOGY ) ) وعلم الإنسان (INTHROBOLOGY ) من العلوم التي عضّدت دراسات الموروث وعدته علماً أكاديمياً عام 1955 في المؤتمر التخصصي بوصفه القيم المتناقلة شفاها إذ تعتمد هذه المفردة على تقصي ودراسة العادات المأثورة والمعتقدات التي تسمى بالآثار الشعبية القديمة أو بالموروث الشعبي (م 2 ص 15).
وقد حظي الموروث الشعبي بتعاريف معاصرة عدة لم تكن قاصرة على الآثاريين ومتتبعيه حصراً . إنما شمل الأدباء والفلاسفة والفنانين وتجاوز ذلك إلى أن عرفه العلماء النظريين والتطبيقيين بما يوافق تتبعهم للأصول العلمية التي درسها وتطرق لها السلف ، لذا فقد عُرّف الموروث أنه "تسجيل أمين لبنية البيئة التي أنتجته وعليه ترتسم خصائصها أصالة وأعمقها تمثيلاً لمواصفات تلك البيئة " (م 3 ص 7) .
فتعريف الموروث الاصطلاحي يتحدد بما تداوله المجتمع القديم في أزمنة متباعدة وقيمته تتجلى باستمراريته في التداول من قبل المجتمعات اللاحقة ، وتقسم طرق انتقال الموروث الشعبي إلى نوعين ، أما بالكتابة والتدوين والبحوث المنهجية أو النقل بالتداول أو شفاهاً عن طريق الرواية والحكاية الشعبية والأمثال والشعر والغناء وغيرها(م 4 ص 9) .
إن التداخل مابين مصطلحي الموروث الشعبي والفولكلور متأتياً من تشابه السلوكيات الثقافية والطقوس والمعتقدات الاجتماعية التي تناقل من جيل إلى آخر ذلك أن المصطلحان يدخلان ضمن الدراسات الأنثروبولوجية أو ما يسمى بدراسات علم الإنسان الذي يتقصى خبرات الإنسان الإبداعية في الفن وغيرها من الآثار والطقوس والأعراف ، كما إن تداخل المصطلحان وتأريخ الفكر الإنساني ناتج بفعل التأثر والتأثير مع العلوم الأخرى لأن النتاج الإنساني موضوع دراستنا يحتم دراسة خصائص الإنسان السلوكية (م 5 ص 172) .
من هنا تطلبت دراسة الموروث الشعبي للمجتمع دراسة للجوانب الفكرية والفلسفية وانعكاسه في النشاط التشكيلي من خلال توظيف الفنان لمفردات الموروث الشعبي سلوكياً وتقنياً أو رمزياً في منجزه الفني المعاصر عبر تقنيات واتجاهات تشكيلية متنوعة مابين الواقعية والأكاديمية والانطباعية والتعبيرية والسريالية والتكعيبية والتجريدية.
إن تعامل الفنان التشكيلي مع الموروث الشعبي لم يكن تسجيلاً أو نقلاً للواقع ورموزه ذات الاتصال وبنية السلوكيات الاجتماعية والعقائدية والاقتصادية للمجتمع القديم ، إنما هو انتماء وتواصل تفرضه هيكلية المجتمع بروحية وهاجس متواصل مع مفردات المجتمع المتجذر ، لذا فإن توظيف الفنان التشكيلي للموروث الشعبي يحمل مرجعيات فكرية وفلسفية أعمق من بعض تصورات التحليل لأنها تولدت مع ولادة المجتمع وتعايشت معه بقسرية فرضتها البنية السلوكية والحياتية للمجتمع ، ويعد هذا التعايش أشد قسرية في منطقة الخليج العربي لأن الموروثات الشعبية هي " العناصر السلوكية والحركية والكلامية والضمنية التي يؤلفها مجتمع من المجتمعات "(م 6 ص 21) .
هذه العناصر المتنوعة التي يؤطرها الموروث الشعبي ذات تأثير مباشر في المجتمع الخليجي المعاصر الذي لم ينقطع عن قراءة موروثه الشعبي لالتزامه السلوكي والأخلاقي بتأريخه وجذوره الطاعنة في التأصيل لاسيما أن "الفن إبداعاً، يعبر عن جماع الفكر والعقيدة والحس والذوق "(م 7 ص 22)، لذا كانت النتاجات التشكيلية في دول مجلس التعاون الخليجي وإن كانت معاصرة فهي إطارات فكرية وتسجيلية إستكمالية للموروث ، متلازمة معه غير منفصلة لأن المعاصرة في قراءة الموروث تتعامل معه على أساس من الفارق الزمني الكبير في حين إن تكامل رؤية الفنان التشكيلي الخليجي في تحليل الموروث الشعبي يعد استكمالا للموروث ومعاصرته .



المبحث الثاني : الفن التشكيلي في دول مجلس التعاون الخليجي :

لا يمكن تصنيف بنية مجتمع دول مجلس التعاون الخليجي لتماسك مكوناته الاجتماعية فيما بينها ، مما يتعذر حسابه على وفق أزمنة متغايرة تفترضها هزة انتقالية تسبب افتراقه اجتماعياً وسلوكياً ، ولعل قراءة أهم تحول في الخليج تمثل باكتشاف النفط كدافع اقتصادي يحتم قياس كل المتغيرات الاجتماعية تبعا له .
ولدراسة ظواهر وإفرازات المجتمع الخليجي قسم الباحثون هيكلية المجتمع الى ما قبل النفط وما بعده تقسيماً لا يفترض فيه حصول هوة ما بين المجتمعين لا سيما اجتماعياً وسلوكياً ، فأنها لم تزل بحيويتها في استمرار تدفق وصميمية الإنسان الخليجي في التعامل مع مفردات ما قبل النفط بذات الروحية ( أخلاقية ) فنرى المجتمع المعاصر باستقراره الاقتصادي والاجتماعي ينقاد باندفاع شديد وحيوي نحو الموروث اعتزازاً به وإيماناً مطلقا بالأصالة المتولدة من رواسب متجذرة في صلب المجتمع .
إن المضامين الفكرية للموروث الشعبي في دول مجلس التعاون متشعبة على وفق مبدأ التأثر والتأثير والانعكاس فيه ، لذا يعزى تعدد الاتجاهات في الموروث الشعبي الى المناهل التي وجد فيها وعليها ، فمنها الاجتماعية ذات المساس والحكايات الفلكلورية والأساطير التي تَداولها وزاولها أفراد المجتمع ومازال فضلا عن الأعراف والتقاليد المستقدمة من الموروث العربي الإسلامي ، كما انعكس الموروث المعماري ( البيوت القديمة ) ليبقى حاضراً في ذهنية المجتمع المعاصر وجداناً حياً ، أما الحرف والمهن التي امتهنها الخليجي فقد اتصلت والحالة الاقتصادية كالصيد والغوص في البحر والعديد من المفردات التي لم تزل ماثلة أمام المجتمع ، وقد هيأت للفن لا سيما التشكيلي الديمومة في الارتقاء والإبداع المتأصل عبر تسجيل التراث واعادته روحاً وشكلاً لانه الأساس في الانطلاق الى رحاب العالمية .
إن إعادة تسجيل الفنان الخليجي للتراث ليس استذكاراً متواصلاً غايته الديمومة في العطاء ، بل هو تعبير وجداني ورؤية محفزة في الثقافة والفن بقيمتهما السامية لأن معطيات التواصل تمثل إضافة روحية ووجدانية من خلال سبر أغوار التاريخ وإدراك محتواه، فتتكشف الأصالة من تحفيزِ لقدرات الفنان الذهنية الذاتية تعززها قدراته وتجاربه التقنية فيكون الطرح الفني مؤطراً بجوانب عدة منها خزين تراكم في وجدان الفنان عبر قراءته للتاريخ بعقلانية ومنها دراسته التقنية تدعمه رؤيته لكيفية الطرح وشكليته ، ينقسم منها المنجز الى محاور عدة منها النقل الحرفي المحاكاتي أو الاستفادة من الوقائع المحيطة تقنياً وتكوينياً فتكون المزاوجة غنية بينما يكون الطرح الآخر مشوباً بالتشويه لقصور في الفهم والإمكانيات التقنية.
وإزاء ذلك يظهر محتوى الاتصال بين الفنان والمحيط بوصفه كينونة لا يمكن إغفالها فتظهر حقيقة تواصل الفن التشكيلي والموروث الشعبي الخليجي.
منذ الخمسينات حتى نهاية القرن العشرين كفترة حاول الباحث التصدي لها في تمييز الفن التشكيلي المعاصر في دول مجلس التعاون بكل اتجاهات وتجارب فنانيه، فيرى السعي والجدة في الاغتراف من المكنون الشعبي مبيناً مدى التأثير البيئي وقابليته في الضغط على الخطاب التشكيلي، فيرتقي منها التشكيل في الروح المعاصرة والاشتغال معها في حدود التأصيل كونها إضافة مبدعة الى روح التراث، كما ان المفردات البصرية هي إنجازات فنية تستمد رؤيتها من المحيط بوعي ذاتي للفنان لان المحيط هو القادر على إعطائها قابلية النمو،وان العمل الفني تجربة جمالية مستمدة بتأثيرها من مقومات الواقع والمجتمع كبديهة طالما أكد عليها التشكيلي الملتزم بمقومات ليست دخيلة حتى أصبحت معالجاته التقنية صياغة إبداعية أفاض عليها الموروث المحلي بعداً جمالياً و فكرياً اكثر تصديقاً.
في الكويت منذ الخمسينات التي تميزت بتجارب تشكيلية ليست كبيرة أهمها المعرض الذي أقيم أثناء انعقاد مؤتمر الأدباء العرب 1958 مروراً بإنشاء المرسم الحر مطلع الستينات ليتوج التشكيل المعاصر في الكويت عام 1978 بالمعرض الذي أقامته الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية التي تأسست
عام 1967 ، وقد افرز معرض 1978 رؤى تشكيلية استنهضت قيمه الجمالية والفكرية باستشراف الموروث المحلي والخليجي والعربي الإسلامي، فجسدت المعروضات الفنية مجمل الأعراف والتقاليد والحكايات والأساطير والحرف الشعبية ذات النفس الشعبي الملتصق وجدانياً بالفنان والمجتمع(م8 ص98).
ولا يختلف عنها في المملكة العربية السعودية إذ ارتقى فيها الفن التشكيلي الى مرحلة متميزة تجسيداً لصلة الفنان بمجتمعه ومحيطه فأستخلص الفنان تجربته على وفق رؤيته للتراث الشعبي لمنطقة الخليج والجزيرة على حد سواء حتى تميز العقد ما بين 1395-1405 هـ (1975-1985م) بإنتاج خطابات تشكيلية التصقت بالتراث كلياً بتقنيات واتجاهات متعددة إذ أن "المنابع التي يستقي منها الفنان السعودي رموزه في التعبير …تميل الى الاستفادة من التراث الشعبي السعودي"(م9ص169)، كما لا يمكن قراءة عمل تشكيلي يستمد رؤيته بعيداً عن الموروث الحضاري والشعبي في البحرين مستنيراً بحضارة دلمون وآثارها، فكان الموروث الخليجي حافزاً مشعاً للفنان في البحرين ، وان لـ(جماعة الفن المعاصر) الأثر البالغ قي هذا التوجه العارم نحو استيقاظ روح الموروث الخليجي والعربي.كذلك تحقق هذا التلاحم ما بين الموروث والتشكيل القَطَري من خلال معالجة الموضوعات المتعلقة بالبحر وفن صناعة السفن الخشبية والبناء المعماري الشعبي والزخارف والألوان وفن صناعة البسط والسجاد وغيرها من الحرف الشعبية. أما في الإمارات و سلطنة عمان لا يمكن للفن التشكيلي إلا أن يكون قريباً من هذا التوجه حيال الموروث الشعبي بفعل تقارب الأسس الاجتماعية في منطقة الخليج، بل ان دراسة أي مجتمع في المنطقة بالضرورة هي عينة صادقة في تمثيل المجتمع الكلي. لأن الخليج كمجتمع لا يمكن تجزئته بحال يتيسر للباحث من دراسته واستخلاص النتائج للأسباب الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية المتماثلة، بيد ان النهج الذي ينتهجه الفنان يتفرد عن غيره في البلد الواحد بسبب المرجعية الأكثر ذاتية للبلد وللفنان في دراسته الأكاديمية للتجارب التشكيلية المعاصرة في العالم واختلاف مشاربهم الذاتية ورؤاهم .


الفصل الثالث
إجراءات البحث

*منهج البحث : للتوصل إلى أهداف البحث اعتمد الباحث المنهج الوصفي من خلال تحليل العينات.

*أداة البحث : سعى الباحث في استخدام افضل أداة تناسب وبحثه وهي (الملاحظة) في تحليل الأعمال عينة البحث .

*مجتمع البحث : شمل الأعمال التشكيلية المصورة لفناني دول مجلس التعاون الخليجي التي حاول الباحث تقصيها بوصفها ذات مساس والقيم التراثية الشعبية

*عينة البحث :الأعمال التشكيلية التي اختيرت قصديا.البالغة (7)أعمال موزعة لثلاثة أعمال من دولة الكويت وعملان لكل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين .

أسباب اختيار العينة .
وقد اختيرت على وفق الضوابط الآتية :-
1- التنوع في الاتجاه التقني .
2- استبعاد الأعمال المتكررة.
3- الأعمال ذات المساس والحالة الاجتماعية لمجتمع دول المجلس.
4- التنوع في اختصاصات الفنانين.






تحليل العينات:
عينة(1) :نادر عبد الحميد / 1956 / الكويت (الختمة)
صور الفنان موضوعة ذات مساس بالمجتمع المسلم في عملية تحفيظ القرآن الكريم للأولاد في سن مبكرة، وحتى يكتمل حفظه من أحدهم تعم الفرحة والأعياد عموم الأهالي.لذا جسد الفنان اللحظة تجسيداً واقعياً محاكاتياً مرتكزاً الى الرؤى التكوينية بمعالجة السطح التصويري في اللون (الاوكر) المستلهم من الواقع المحلي والبيئة الشعبية (الرمال).كما يتشكل البعد المعماري والوحدات الزخرفية للبيئة فضلاً عن تجسيد الملامح والأزياء الشعبية الخليجية.
كما اعتمد الفنان في توزيع مفردات السطح التصويري الى مركزية العمل ( الطفل بيده القرآن الكريم في المركز).
إجمالاً يستعرض الفنان السلوك الاجتماعي والبعد المعماري الشعبي مجسدا" المحلة في معظم المفردات,ليبقى العمل الفني وثيقة مسجلة لسلوك اجتماعي تضاءل وجوده في المجتمع العربي في الوقت الحاضر.


عينة (2) : سامي محمد / 1943 / الكويت (فتاة كويتية)
يتفرد الفنان في منحوتاته ذات البعد الجمالي والتعبيري في استكشاف كوامن الإنسان وإرهاصاته وهو العارف بحيوية مادته المستخدمة وقابليته في تطويعها وفق ما يرتئي ،وقد اقتفى الفنان في معظم أعماله النحتية تقنية جياكومتي عبر استطالات شخوصه ونحافتها رغم واقعيتها، وفي عمله( فتاة كويتية) جسد بواقعية أكاديمية مفردة محلية لم تزل متواجدة في مجتمع الخليج بهيئة حلة ترتديها النساء في الأفراح والمناسبات (الهاشمي) ، وقد أشرك تقنية التصديف استذكاراً للبحر ,فضلاً عن اتصال اللباس الهاشمي تقنياً وشبكة الصيد(السلية) .
وقد تجسدت المزاوجة التقنية المعاصرة والدراسة الأكاديمية للعمل ليرتقي منها الى حدود التأصيل والإبداع مما يشير الى ان الفنان يعد من قمم النحت المعاصر في الوطن العربي .


عينة (3) يوسف القطامي 1950 / الكويت / (لعبة شعبية)
ينقلنا في منحوتته الى روح الموروث الشعبي الخليجي باستشفاف مفرداته بتركيبة ورؤية معاصرة موظفاً الشكل باستحضار من الموروث الرافديني السومري عبر تهميش الملامح وتجاوزها للوجوه الآدمية لا سيما المنحوتات المعبودة(م10ص25-26)، فأعاد صياغة الأشكال ليهذبها على وفق استيعاب الجوانب الشعبية الخليجية فيشير العمل الفني الى تسجيل مفردة سلوكية محلية مارسها المجتمع كنوع من التسلية الجماعية معتمداً مبدأ التناظر والتماثل والحركة المتولدة من دورانية المنجز بكليته يدعمه التوازن والتكرار وصولاً الى الوحدة التكوينية الجمالية.(م11ص88).



عينة (4) محمد السليم / السعودية (موضوع)
إن قراءة العمل تنقلنا إلى الأجواء اللونية الخليجية المنسجمة (الهارموني) ليجسد حالة المجتمع الخليجي قبل ظهور النفط إذ المصاعب الاقتصادية وقسوة العيش، فيستعرض لنا امرأة تفترش الطريق للرزق بيدها طفلها الرضيع.كما نقل البعد المعماري الخليجي ببساطته وبدائيته (بيوت الطين).
أما التقنية التي اعتمدها الفنان فهي توليفية ما بين ( انطباعية سيزان أو سورا ) في ضربات الفرشاة التي مهدت للتكعيبية وتعبيرية (ماتيس) باستخدام اللون الأسود بمعية الألوان الصريحة وثالثهما تعبيرية ما بعد (ماتيس) مجسداً فيها التعبيرية ضمن منطقة الاختزال والتجريد فبرز العمل تحفة لا يمكن للتشكيل العربي تجاوزها.



عينة (5) محمد سيام 1374 هـ/السعودية (بيوت)
منجز بالألوان الزيتية للفنان السعودي محمد سيام تحت عنوان (بيوت) ينتمي إلى المدرسة السريالية كتقنية تبناها الفنان فضلاً عن التصميمية المعمارية التي سعى إليها.
يتأسس المنجز من كتل معمارية تقترب من القيم التراثية الشعبية في الخليج وأحاطتها بالزخرف (المربعات والدوائر) والنوافذ المستطيلة ، كما لجأ الفنان الى التضادات اللونية ما بين الكتل والخلفية ( Back Ground ) بافتراضات الحلم، كما يقترب السطح التصويري من تقنية التلصيق (كولاج) لا سيما في منطقة البناء المعماري ليحيل المتلقي الى المدرسة التكعيبية .
إن المفردات الزخرفية المستخدمة يمكن تأويلها الى بساط مزركش بموتيفات شعبية ذات ألوان براقة كنوع من التعويض اللوني الذي يفتقده الإنسان الخليجي المتشرب بألوان الرمال والصحراء والبحر (الاوكرات والالوان الباردة) لذا لجأ الى الألوان الحارة (الأحمر والأصفر) بمعية الألوان المعتادة للإنسان الخليجي مما يعطي للمنجز صفة التوازن البنائي جمالياً.
إن العمل يمثل قيمة تشكيلية استنهضت الموروث الشعبي الخليجي بتقنية مزدوجة تنامت عند الفنان عبر دراسته للفن الأوربي المعاصر . وهذه قيمة طالما لجأ إليها الفنان العربي بصورة عامة والخليجي بخاصة لينبري منها منجزه بتفرد متميز يرتقي صفة الأصالة والإبداع.



عينة (6) راشد العريفي / البحرين (موضوع)
ينزع إلى تآلف الرسومات الطفولية الأقرب الى الفطرية و استشراف الموروث و (الموتيفات) الشعبية مع العناصر الواقعية الإسلامية بزخرفيتها, وهو اتجاه الفنان الى قراءة التاريخ وحضارة (دلمون) والرسوم الجدارية ذات الاتصال بالرسوم الجدارية الرافدينية.
وقد تصرف بالسطح التصويري كفضاء تسبح فيه الأشكال مولداً أشكالاً زخرفية كما اتجه الى التبسيط والاختزال بتقصي منهج غربي(بول كليه وخوان ميرو وحتى بيكاسو) . كما يمكن تصور الزخرفية على شكل بساط مزركش فضلاً عن الهندسية كتوجه حروفي تشكيلي, ومن خلال الربط ما بين المفردات في المعنى
(منائر، قباب، أهلة) يمكن توصيف الشكل برمته ليمثل شخصاً متعبداً رافعاً يديه وهو راكع.
إن العمل يحمل بين تلافيفه مجمل التقنيات العربية الإسلامية في امتلاء السطح بالزخرفية وغياب المنظور وإهمال التشريح .
فان المزاوجة التي سعى إليها الفنان مكنت المتلقي من توصيف العمل بوصفه عملاً إبداعياً من خلال استنهاضه القيم الجمالية الموروثة والتقنية التي انتهجها عبر دراسته ورؤيته .



عينة (7) عبد الكريم البوسطة / البحرين (فتاتان)
يعرض الفنان عمله في شكل فتاتين بنهج تعبيري اقرب الى الوحشية مؤكداً على قيمة اللون الأسود بتحديد المساحات على وفق تقنية (ماتيس) المنعكسة على أعمال العديد من الفنانين العرب، وبحكم مرجعية الفنان الى حضارة كبيرة (دلمون) واتصالها والحضارة الرافدينية السومرية.فقد وظف الفنان ملامح الوجهين على وفق مرجعيته الحضارية والتاريخية كقيم جمالية ما زالت منبعاً يثري التشكيليين في الاغتراف منه.










الفصل الرابع
النتائج والاستنتاجات


النتائج ومناقشتها
1. أن التشكيل الخليجي ارتكز الى قيم فكرية بوصفها قيما تكمن في كينونة المجتمع. سعى الفنان الخليجي من تفعيلها على وفق تقنياته الى خطابات جمالية وتوثيقية تمثل علامات ذات خصوصية وتفرد في التشكيل الخليجي .
2. بفعل المشارب الغربية للفنان الخليجي ، انتهج تقنيات غربية معاصرة لمضامين اجتماعية محلية ، مخلفا توليفة جمالية ما بين التقنية والموضوع ، حتى الأعمال ذات النهج التجريدي والأشد حداثة فإنها لا تبتعد عن تجسيدها للواقعية الخليجية .
3. توصل الفنان الخليجي الى تقنيات معاصرة على وفق (الثيمات ) الواقعية و(الموتيفات ) الشكلية والأساطير لتتحدد منها تقنيته الذاتية وتفرده في الإنجاز والتنفيذ، بل ان توصله الى هكذا تقنيات وان كانت مرجعيتها رؤيته المتحررة وموهبته المتقدة، إلا إنها لا تخلو من مرجعيتها في الموروث الشعبي بكل تنوعاته المتولدة في المجتمع الخليجي.
4. أستعرض الفنان الخليجي صور الواقع المحلي مقتفياً سلوكيات المجتمع الخليجي والعربي المسلم إذ عالج موضوعاته وما تحمل من معان اجتماعية وطقوس فلوكلورية محلية يزاولها أهالي المحلة (الفريج) بكل مستوياته الاقتصادية وإن اختلفت بعض الشيء.





الاستنتاجات

وخلاصة ما تم التوصل إليه واستنتاجه من الإطار النظري والتحليل لعينات البحث فأن الموروث الشعبي لدول مجلس التعاون الخليجي يشمل المجتمع برمته من خلال التعايش الآمن معه لانه نابع من كينونة الأرض والرمال والبحر والصيد والممارسات الشعبية الأخرى كالرقص والموسيقى، بل أن المجتمع لم يزل يحفز من التعامل والتقرب من الموروث الشعبي .
ولإدراك الفنان التشكيلي الخليجي بقيمة الموروث الشعبي كانت مراقبته له وتصديه كبيرة جداً لأنه يتعامل مع قيم لم تزل خالدة في المجتمع. وأن الخطاب التشكيلي كان بحق صورة حقيقية لمفردات تراثية قد اندثر بعضها لينقلها الى المجتمع المعاصر بجمالية وتفرد تمثل نضجاً في الرؤية البصرية للموروث ونضجاً في الخطاب التشكيلي في دول مجلس التعاون الخليجي العربي.



























المصادر

المصادر حسب ورودها في متن البحث
1- عاصم فرمان صيوان البديري. المتحول في الفن العراقي الحديث. أطروحة دكتوراه غير منشورة. جامعة بغداد. كلية الفنون الجميلة 1999.
2- فوزي العنتيل . الفولكلور ماهو . دار المعارف . القاهرة 1965 .
3- لطفي الخوري . في علم التراث . الموسوعة الصغيرة . وزارة الثقافة والإعلام . بغداد 1979 .
4- عبد المجيد لطفي . التراث الشعبي هل هو شيء منعزل ؟ . مجلة التراث الشعبي . العددان 11 ، 12 . وزارة الثقافة والإعلام . دائرة الشؤون الثقافية العامة بغداد 1984 ة.
11/12 . وزارة الثقافة والإعلام . دائرة الشؤون الثقافية العامة 1984 .
5- د. نبيلة إبراهيم . الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق . دار المريخ للنشر . الرياض . 1985 .
6- صفاء الدين حسين جمعة التميمي . توظيف الأسطورة والحكاية الشعبية في المسرح العراقي المعاصر . رسالة ماجستير غير منشورة . كلية الفنون الجميلة . جامعة بغداد 1989 .
7- صفوت كمال . مدخل لدراسة الفولكلور الكويتي . شركة ذات السلاسل للطباعة والنشر ط3 . الكويت 1986 .
8- شوكت الربيعي. الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي 1885 –1985.دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986ز
9- سمير ظريف. الفن التشكيلي السعودي خلال عقد من الزمن. مجلة الفيصل العدد100 /السنة 9 / تموز (يوليو)/1985.
.10- طارق عبد الوهاب مظلوم. النحت في عصر فجر السلالات حتى العصر البابلي الحديث. حضارة العراق ج4. نخبة من الباحثين. دار الحرية للطباعة. بغداد 1985.
11- ناثان نوبلر. حوار الرؤية. مدخل الى تذوق الفن والتجربة الجمالية. ترجمة فخري خليل. دار المأمون للترجمة والنشر ط1 بغداد 1987.























عينة 1











عينة 2 عينة 3












عينة 4






































عينة 5

عينة 6






























عينة 7











نشر قي العدد الثاني مجلة دراسات البصرة 2006

الصورة الدرامية في أعمال الفنان

ملخص البحث
تتقارب الفنون عامة في مجمل عناصرها البنائية ، مما تلتقي وتتآلف في إطارها الجامع لها ، والمسرح الذي يضم كل تلك العناصر لأن المسرح وكما يطلق عليه ( أبو الفنون ) ، لذا عدت المشاهد ( الصور المسرحية ) بمثابة لوحات تشكيلية . وترجمة المسرح لغوياً ( دراما ) ، وهي فعل يحاكي المحيط بواقعية ، فعمد معظم الفنانين إلى تفعيل الحدث الدرامي في منجزهم التشكيلي ذي التوجه التقني القريب من الواقعية كالواقعية التسجيلية والانطباعية والتعبيرية وغيرها من التوجهات التشكيلية التي تشتغل وتقترب من منطقة الواقعية ، ومن هؤلاء الفنان العراقي الرائد محمود صبري في معظم لوحاته ، لذا سعى الباحث إلى دراسة الصورة الدرامية في أعماله ، وشمل البحث أربعة فصول . الأول ( الإطار العام للبحث ) وشمل مشكلة البحث والحاجة إليه وتمثلت بالإجابة عن التساؤل الآتي . كيف جسد الفنان الصورة الدرامية في أعماله التشكيلية ؟ ، وحدد أهمية البحث بتعالق الدراما مع اللوحة التشكيلية ، كما حدد الباحث حدود بحثه موضوعياً بأعمال الفنان ، وأنهى الفصل بتحديد مصطلح الدراما لغوياً واصطلاحياً ثم عرفها إجرائياً ، كما عرف الصورة الدرامية إجرائياً بالركون إلى التعريف الاصطلاحي للعرض المسرحي ، أما الفصل الثاني فقد احتوى مبحثين ، الأول . تاريخ الدراما وعناصرها في العرض المسرحي وآلية بنائها ، والمبحث الثاني شمل الصورة الدرامية في الفنون التشكيلة العراقية . بينما شمل الفصل الثالث إجراءات البحث وتضمن المنهج المستخدم وأداة البحث ومجتمع البحث وعينته وتحليل العينة التي اختيرت قصدياً وهي لوحة ملحمة الجزائر ولوحة نعش الشهيد ولوحة نساء في الانتظار ، أما الفصل الرابع فقد شمل نتائج البحث ومناقشتها ومنها :
أولا : تبنى الفنان في مضامين لوحاته القيمة المعنوية للإنسان بوصفه محور الكون الذي بنت كل تلك الإشكاليات أسسها عليه ، ولم يكن الفنان هو الوحيد في تصدي موضوعة الإنسان ، بيد انه سلط عليه الضوء من جوانب خاصة سياسية أم اجتماعية أم فكرية .
ثانيا : سعى الفنان في أعماله إلى مزاوجة الصورة التشكيلية مع الصورة المتحركة فبثت الصورة الدرامية بوضوح .
ثالثا : كما سعى إلى مشاكسة المتلقي من خلال الانفعال الذي يولده العمل على إن الصورة التشكيلية تمس المتلقي في دقائق حياته التفصيلية ليرى المتلقي ذاته في كل عمل .
رابعا : لم يفصل الفنان موضوعه السياسي عن الهاجس الاجتماعي ، لذا جسد حالة الحرمان المتسلط على المجتمع بفعل الضغوط السياسية .
خامسا : يرى الباحث أن الأعمال لاتكتمل صورتها التشكيلية إلا بوجود الثالوث وهو انفعال المتلقي .
سادسا : اعتمد الفنان اسلوب الإنارة المسرحية في أعماله لغاية وظيفية ينبغي منها استثارة الفعل الدرامي بوصفه الطريق الأصوب والأيسر في تفعيل المجتمع .
سابعا : لم يجسد الفنان القيمة الدرامية بشقيها الدرامي والتراجيدي لتلتقي بالتراجيديا لأن المضامين المأساوية التي يعرضها الواقع السياسي المتأزم تنحو حيال التراجيديا ، لذا عمد إلى استثارة العواطف لغاية تعبوية .
ثامناً : وبفعل الخلفية الأيدلوجية للفنان وقراءته للواقعية الاشتراكية أدباًً وفناً وسياسة استطاع أن يوظف منجزه ضمن هذا السياق .
كما اقترح الباحث وأوصى ببعض الأمور وقبل ختام بحثه بثبت المصادر تطرق الباحث إلى سطور مختصرة تعريفية بالفنان أفرد لها ملحقا خاصاً بها .

الفصل الأول

الإطار العام للبحث
مشكلة البحث والحاجة إليه :
لاريب أن الفنون بكل تنوعاتها تتقارب وتتداخل في معظم عناصرها ، فعناصر المسرح والسينما والتشكيل والموسيقى والأدب ، جميعها تتداخل مع بعضها ، ولعل المسرح بوصفه الإطار العام لمجمل الفنون الأخرى ، فهو الجامع لكل العناصر التي تختص بها تلك الفنون ، ولأن الدراما نسغ الفنون التي تحاكي الواقع لأنها تمثل الفعل المتحول في المشاهد المصورة كما في المسرح والسينما بفعل تعاقب الصور المرئية أو في الشعر والأدب كما في الصور المتخيلة ، هذه الصور مؤطرة بعناصر جمالية ، في كل جزئياتها هي لوحات تشكيلية . فالمسرحية مجموعة لوحات تشكيلية تراتبت فشكلت الدراما ، لذا يعمد بعض الفنانين إلى إذكاء الفعل الدرامي وعناصر بنائه في العمل التشكيلي لاسيما جداريات الرسم أو النحت أو الخزف . وكان الفنان محمود صبري أحد الفنانين العراقيين الرواد ممن وظفوا الصورة الدرامية في أعماله التشكيلية ( الرسم ) . لذا تولدت مشكلة يسعى الباحث إلى الكشف عن آلياتها على وفق تعالقات الفنون مع بعضها لاسيما تعالق الدراما مع التشكيل .
وعلى ضوء مشكلة البحث تتولد إجابات الباحث عن التساؤل الآتي :
كيف جسد الفنان الصورة الدرامية في أعماله ؟
أهمية البحث :
تتحدد أهمية البحث من خلال تعريف المتلقي بعلاقة الفنون البصرية مع الفنون التشكيلية ، لاسيما تعالق الصورة الدرامية مع التشكيل .
هدف البحث :
يهدف الباحث إلى الكشف عن الصورة الدرامية في أعمال الفنان العراقي الرائد محمود صبري .
حدود البحث :
الحدود الموضوعية : أعمال الفنان محمود صبري .
تحديد المصطلحات :
الدراما :
لغــةًً
" (dra.ma) . الدراما ( أ ) المسرحية ، ( ب ) الفن والأدب المسرحي ، ( ج ) حالة . أو سلسلة أحداث تنطوي على تضارب عنيف أو مشوق بين قوى مختلفة .
) dra . mat . ic ) ( أ ) درامي ، مسرحي ، ( ب ) مفاجئ ، مثير ، دراماتيكي .
( dram . a . tize ) يمسرح ( أ ) يفرغ في قالب مسرحي ، ( ب ) يصور . أو يعبر عن ، بطريقة مسرحية " ( م 1. ص37 ) .
ـ والدراما مصطلح يدل على كتابة الحوار نثراً أو شعراً ، أو تمثيلية إيمائية تروي قصة صراع أو مقارنة بين شخصيتين ، وهي باب من أبواب الأدب ، وفي اللاتينية تعني ( تمثيلية ) وفي الإغريقية تعني ( التمثيلية والفعل المسرحي ) ( م2 . ص 365 ) .
والدراما حسب القاموس The oxford companion To The Theatre هي " اصطلاح يطلق على أي موقف ينطوي على صراع ، ويتضمن تحليلاً لهذا الصراع عن طريق افتراض وجود شخصيات ... وأي حوار بدائي يتضمن غناءً ورقصاً يمكن اعتباره دراما " ( م 3 . ص 28 ) .


اصطلاحاً
الدراما " لفظة تطلق " على مثل تلك المنظومات - المسرحيات – التي تقدم أشخاصاً وهم يؤدون أفعالاً ( م 4 . ص 73 )
الدراما " شكل فني مبني على فعل يستند إلى المحاكاة " ( م 5 . ص 9 ) .
" الدراما محاكاة لحدث واحد كامل . تترابط أجزاؤه بعضها مع البعض بحيث لو حذف بعضها أو تغير مكانه تغير الحدث كله أو انعدم . فمن البديهي إن الجزء الذي يمكن حذفه أو تغييره من دون أن يؤثر هذا على الكل ليس جزءاً من الكل .. " ( م 6 . ص 17 ) .
وهي " اصطلاح يطلق على أي موقف أدبي أو فني ينطوي على صراع ، ويتضمن تحليلاً له عن طريق افتراض وجود أشخاص ، أو بأنها مجموعة مسرحيات تتشابه في الأسلوب أو في المضمون " ( م 7 . ص 67 ) .
التعريف الإجرائي
الدراما فعل محاكاتي يبتغى منه نقل الواقع بصدق للمتلقي ومحاولة استثارته وتفعيله انسجاماً مع المحيط . وقد اتصل مع الفعل الحركي أكثر من اتصاله مع الصورة بيد إن الباحث افترض أن الفعل الحركي مجموعة صور متراتبة ، كل واحدة منها تمثل لوحة تشكيلية تمتلك مقومات العمل التشكيلي الجمالي .

الصورة الدرامية :
التعريف الإجرائي
لم يجد الباحث تعريفاً دقيقاً لمصطلح الصورة الدرامية لذا استقى من تعريف المبارك للعرض المسرحي " انه فعل مزدوج يمثل حالة انتقال من نظام لغوي مكتوب إلى نظام ثنائي لغوي وغير لغوي بفعل الإنتاج " ( م 8 . ص 1 ) ويمكن للباحث أن يؤسس تعريفاً إجرائياً من توافق العرض المسرحي مع الصورة الدرامية . وهي عملية مزاوجة بين الرؤية البصرية والفعل المتولد من العملية الإخراجية للنص المسرحي بوصفه نتاجا أدبيا فأحاله إلى منجز تشكيلي ، لأنه يمثل حالة انتقال من المنجز اللغوي إلى المنجز البصري المتأتي من النظام اللغوي وغير اللغوي .







الفصل الثاني
الإطار النظري
المبحث الأول
1 _ الدراما . نبذة تاريخية .
أشارت الدراسات التاريخية إلى المنبع الأساس للدراما وعزتها إلى نتاج أغنية تقليدية ورقص لسلوك طقوسي ديني يبث قوة الحياة وانتصارها على الفناء والموت ، وتوصلت تلك الدراسات إلى أن أصل الدراما في مصر يعود إلى الفترة مابين 4000 وسنة 3000 ق . م من خلال الرسومات الجدارية الفرعونية ، كما ظهرت مصاحبة للطقوس الدينية في آسيا وجنوب شرق آسيا إلا أن تطورها الأكثر اتساعاً كان في اليونان ليعد منها أصل الفكر الدرامي الأوروبي في المسرح الروماني كما أوضحها أرسطو في كتابه الشعر وعليه فإن الدراما والدين تلازما بقوة في التاريخ ولهما جذر مشترك بحيث يمكن تفسير تلاقيهما من خلال استحالة تحليل أحدهما دون الرجوع إلى الآخر ( م 9 . ص 23 _ 33 ) .
الدراما جنس أدبي تخطى حدود الأدب ليتحقق في الفنون الأخرى كالمسرح والسينما والتلفزيون ، كما تعداها إلى العمل التشكيلي ، وتعد انعكاساً قيمياً للمجتمع الذي ولدت فيه ومنه ، فضلاً عن تقويمها لسلوكيات وثقافة المجتمع ، إلى جانب تصويرها للمثل العليا والجمالية على وفق عصرنة مواقفها وتنوع توجهاتها ( م 10 . ص 175 ) . ولكون الدراما ذات قدرة على هيكلة العلاقات الإنسانية وبنائها من خلال تأثيرها الاجتماعي واتصالها مع المتلقي ، مما يفرز مفاهيماً على ضوء مشاهداته للأحداث وإمكانية استجابته نفسياً واجتماعياً لتؤول بذلك إلى تبني الحلول التي أفرزتها تلك المشاهدات أو رفضها تبعاً للذائقة الجمالية والفلسفية والأخلاقية مما يتحلى بها المتلقي ، ويتم ذلك عبر عملية تحليل النص الدرامي سواء أكان صورياً تشكيلياًُ أم صورياً حركياً مسرحياً تدعمه عناصر التكوين الأخرى التي تنظم النص جمالياً ( م 11 . ص 19 ) .
الدراما فن أدائي قديم جداً يعتمد الحركة واللغة في توصيل فكرة ما ، وقد عرفها الإنسان ترادف الشعر لأن المسرح القديم ( الروماني والإغريقي ) وفي محاولة بحثه عن أداة التعبير لجأ إلى اللغة التي بنت الشعر وقد تعاضد مع الحركة والإيماءة والرقص لتكون الدراما بشكلها الأكمل ، وجسدها فعلاً ( أسخيلوس ) في المسرح الإغريقي ، كما بنيت الدراما تدريجياً وعلى تعاقب الأجيال ، ونشأت بصورة غريزية في الانسان ومحاكاته ، مما يتعذر تحديد البدايات الأولى لنشوء الدراما بوصفها فناً تمثيلياً ، بيد أن الإغريق هم أول من أنشأ الدراما وعندهم تطورت . وقد زودت الطبيعة الانسان القديم بمقومات الدراما كما زودت الفنون الأخرى ، وإن الفكر الديني والسلوك الطقوسي لايمكن فصله عن الدراما لأنها صراع بين المتناقضات والأضداد ( م 12 . ص 9 _ 17 ) .
لقد شهدت الدراما في عصر النهضة تطوراً ملحوظاً جسد روح العصر وفلسفته الاجتماعية ، دون أن يكون أسيراً لأسس هوراس أو قوانين أرسطو . وقد تعاضدت ثلاث قوى لتنتج قوة واحدة هي المسرح الكلاسيكي الشكسبيري وروح العصر والتقاليد الفنية للدراما في العصر الوسيط . وتطورت التراجيديا في عصر النهضة بفعل الطباعة في ايطاليا عام 1465 فنشرت المسرحيات الإغريقية والرومانية ، وفي انكلترا فقد اهتمت الدراما بالتراث الكلاسيكي بشكل كبير في القرن السادس عشر بفضل الجامعات والمدارس التي درست المسرحيات القديمة وعرضتها ومنه نشرت المفاهيم الكلاسيكية للشكل والصورة الدرامية ، وتمثل العصر الذهبي للدراما في اسبانيا من خلال المسرحيات الشعرية النابضة بالحياة الواقعية ، كما اهتمت الكلاسيكية في نقاء النماذج الدرامية ، أهداف الدراما ، محاكاة الواقع أو الإيهام به ومفهوم اللائق ، ثم وحدات الحدث والمكان والزمان ، وقد اقتصرت الأشكال الدرامية على التراجيديا والكوميديا ، وفي اسبانيا ظهرت عملية مزج العناصر المحلية مع النظرية الكلاسيكية فسادت الكلاسيكية في فرنسا على أساس قيام وحدة الزمان والمكان والفعل مع بقاء الالتزام بحرفية القوانين الأرسطية ( م 13 . ص 42 ) بينما سميت الدراما بالعاطفية فتطورت أكثر في شمال أوروبا وشرقها ، وسادت المشاعر والأفعال ومردها غرائز الإنسان وساد مفهوم إن الحقيقة يمكن إدراكها بادراك الكون في صوره المختلفة التي خلقها الله سبحانه ، وهو مفهوم رومانسي يرى في حاجة الكاتب أي شيء أكثر من القواعد ، لذا حلت الأساطير الإغريقية محل قصص القرون الوسطى والحكايات التاريخية والأساطير الشعبية ، وقد تمردوا على النظم والقوانين الاجتماعية والأخلاقية في عصرهم ، وأدت الموضوعات والأشكال والثيمات الجديدة إلى خلق دراما مضادة لما سبقها ( م 14 . ص 59 _ 60 _ 66 _ 76 _ 94 ) .
أما في البلاد العربية فقد عرفت الدراما بصيغتها اللفظية دون أن يكون لها معنى واضح ، لكنها ارتبطت مع الأدب السردي مع اختلافها عنه في تصوير الصراع كجزء رئيس في مفهومها فضلاً عن تجسيد الحدث واشتداد العقدة وتكثيفها ، لأن الـدراما بالأساس تعد أكثر عنفاً من الأدب الروائي والقصصي ( م 15 . ص 7 ) . والدراما مصطلح جامع للأشكال الفنية والأدبية كالتراجيديا والكوميديا والميلودراما ، وقد عرفت هذه المصطلحات جميعا ً لتبث المصطلح الشامل للدراما ( م 16 . ص 18 ) .

2 _ عناصر الدراما في العرض المسرحي وآلية بنائها .
لاريب أن المحاكاة إطار جامع ترتكز إليه معظم الفنون وتتفق عندها ، رغم إنها تختلف في الوسيلة ، ولأن المحاكاة لها واسطة ( اللغة والموسيقى ) وطريقة عرض ( المنظر المسرحي ) والموضوع ( الحبكة والشخصيات والفكرة ) ، لذا شخصت عناصر الدراما على ضوء هذه المفردات ، ولهذا يضع الباحث توصيفاً للصورة الدرامية البصرية بالركون إلى عناصر الدراما المسرحية . فالوسيلة تمثل قابلية التعبير وهو التوصيف الذي يبثه المنجز التشكيلي للمتلقي ، بينما يجسد المنظر المسرحي طريقة لإظهار العمل الفني ، أما الموضوع فهو المرادف للفعل والحدث والفكرة نتاج الشخصية . ومن خلال الاطلاع ومتابعة العديد من المصادر التي تطرقت للدراما في العرض المسرحي وعناصرها ، توصل الباحث إلى آلية تحديد تلك العناصر أو مايسمى بعناصر العرض المسرحي وهي كالآتي :
1- الشخصية : وهي عنصر أساسي مكون للدراما تتطور بفعل التطور الاجتماعي لأنها أداة تعبيرية تفرض نفسها لتقيم أثراً تشترك معها معظم عناصر الصورة الدرامية الأخرى ، وهي عند أرسطو ليست تصويراً للشخصيات ، وإنما تمثل الإطار الذي يتفاعل معه المتلقي ( م 17 . ص 23 ) .
2- الحبكة ( الفعل والصراع والنغم ) : وتعني بناء الفعل تراتبياً والذي يؤدي إلى اغناء الفكرة وتأكيدها وصولاً للتشويق ، وهي الرابط المتسلسل للأحداث والحالات التي تغني المشاهد تشويقاًَ وإثارةً حتى الخاتمة التي تمثل النتيجة اللاحقة للأسباب السابقة ( م 18 . ص 561 ) . فالحبكة هي البناء المتكامل في نسج الأفعال المبنية بتناسق كالأصوات الموسيقية التي تتناغم في إنشاء جملة موسيقية مقبولة رغم تعدد الآلات أو هي الهيكل العام للعمل التشكيلي رغم تباين الخامات المكونة له ( م 19 . ص 22 ) وهي التقنية التي تعطي شكلاً معيناً للفعل الدرامي ( م 20 . 15 ) .
3- اللغة والموسيقى : وهما واسطتا التعبير عن الأفكار والكلمات في الأدب ويراها الباحث كالخط الوهمي المتين الواصل بين العمل التشكيلي والمتلقي ، أي إنها وسيلة الاتصال المباشر لفظياً كانت أم بصرياً ( م 21 . ص 13 ) .
4- الفكرة وهي ما يتصوره المؤلف تجاه مجتمعه ومنها يباشر المؤلف في إنتاج عمله الفني وتتكون مما يحمله المؤلف وكيفية بثه للمتلقي ، كما تمثل العلاقة مع الفعل الدرامي وصولاً للحبكة وكيفية وصولها للمتلقي ( م 22 . ص 15 ) .
5-المرئيات . وهي العناصر المكملة للعمل الفني كالكتلة والإضاءة واللون والتوازن وغيرها ، وهي بمجملها عناصر تكوين العمل الفني .
6-المحيط . أو ما يسمى الجو النفسي العام . وهي عملية تواصل بين العمل الفني والمتلقي ، ففي المسرحية تشكل مجموع اللقطات والمشاهد حواراً نفسياً مع المتلقي ويحدث ذلك في الموسيقى إذ تشكل مجموع النغمات المتولدة من الآلات ذوات الغرض لاسيما إذا انفردت بعض تلك الآلات ، وفي العمل التشكيلي فان الأجزاء التي تكون العمل تولد تفاعلاً استجابة أم تنافراً مع خزين المتلقي الثقافي والمعرفي .
إن التنظيم الذي يوحد عناصر الدراما في العرض المسرحي ضمن سياق العمل الفني من خلال آلية ربط الفعل مع الشخصية في أحداث العمل التصويري الحركي أم البصري ( مسرح ، سينما ، منجز تشكيلي ) يطلق عليه الصورة الدرامية للعمل الفني وقد تناغمت الصورة الدرامية على وفق اتجاهات المحيط والعصر الذي ولدت فيه ومنه ، كما لاقت تبدلات واستهجانات من قبل المنتج حينما تتناقض مع أعرافه وقوانينه ليصل إلى مبتغاه ومثله العليا ، وقد تجاوز الفنان الصورة الدرامية المألوفة المتمثلة بأسس الحدث ابتداءاً من البداية ( الاستهلال ) والعقدة ( الأزمة والذروة ) والوصول إلى الحل وقد لخصها أرسطو في مفهومه للحبكة بوصفها أهم عناصر الدراما لاسيما التراجيديا فعدها عقدة وحلاً لهذه العقدة ( م 23 . ص 50 ) .

المبحث الثاني . الصورة الدرامية في التشكيل العراقي .
لقد ارتبط التصوير بالأدب ارتباطا مباشرا لاسيما ارتباطه مع القصص الشعبية والمقامات التي صورها الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي ، إذ صور مقامات الحريري متتبعا ومسجلا الأحداث التي جرت آنذاك ، وقد صور الفنان التشكيلي العراقي المعاصر القصائد والدواوين الشعرية بأسلوب درامي بعد أن تجاوز حدود الشعر ، ولاشك إن التشكيل المعاصر في العراق افرز العديد من الأعمال الفنية التي جسدت الوقائع والأحداث القديمة والمعاصرة بتنوعات وتقنيات مختلفة ، ولأن المجتمع العراقي غني بالأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية مما حفز الفنان أن يضمن أعماله هذه الأحداث منذ البدايات التشكيلية ومازال ، ولأن التاريخ اغفل كماً كبيراً من المنجزات التشكيلية المعاصرة ولم يوثقها ، عدت مرحلة الرواد أقدم التجمعات المؤثرة في التشكيل العراقي ، ولإلقاء الضوء على قيم الصورة الدرامية في التشكيل العراقي المعاصر نجد الراحل جواد سليم كيف بث الصورة الدرامية في العديد من أعماله في الرسم والنحت لاسيما في النصب الخالد ( نصب الحرية ) الذي قسمه إلى أربعة عشر جزءاً توحي بتكاملها لتجسد صورة درامية متسلسلة لحياة مجتمع وكذلك أعماله ( كيد النساء ، صبيان يأكلان الرقي ، السجين السياسي ) كذلك الفنان الراحل فائق حسن في واقعياته الأكاديمية وحياة البداوة والخيول ومنها عمليه ( بقايا مناضل ، الفرس النائم ) وفيصل لعيبي وهاشم حنون وعبد الصاحب الركابي وعلاء بشير وموضوعات الشهادة والمنحوتات ذات المرجعية الأسطورية للفنان محمد غني حكمت وأعمال الراحل سعد شاكر الأسطورية وموضوع الفدائي ( م 24 . ص 55 _ 57 ) ، في حين صور الفنان إسماعيل الشيخلي القرية بواقعية حالمة وأضفى عليها الملمح الدرامي بتقنية تعبيرية أو أقرب للتجريد باختزاله السطح التصويري إلى ابسط حالاته رغم غناه اللوني ، أما خالد الرحال فقد جسدت أعماله النحتية الصورة الدرامية بأسلوب يتوخى منه مشاركة المتلقي وجدانياً وعمله ( حاملة القناع ) ( م 25 . ص 142 ) ، ومحمد راضي عبدالله في بعض تخطيطاته ذات الأسلوب السريالي ، ورافع الناصري وكاظم حيدر وماهود احمد حينما جسدوا ثورة الإمام الحسين ( ع ) في كربلاء درامياً بأعمال فنية متباينة في الاتجاه التقني والأسلوب بين الواقعية والتعبيرية والتجريد ( م 26 . ص ) .


ما أسفر عنه الإطار النظري
إشارةً إلى التتبع التاريخي لنشوء الدراما وتطورها ودراسة عناصرها ، فان الإطار النظري تضمن تحديد العناصر من خلال متابعة العديد من الدراسات التي حددت هذه العناصر ، وعلى ضوء موائمتها مع موضوعة البحث أشار الباحث إلى بعضها في العرض المسرحي لغرض تحليل عينة البحث ، ومن خلالها تمثلت أهميتها في العمل التشكيلي وهي .
1 _ الشخصية بوصفها العنصر الأكثر تعبيرية ومنه يفترض الباحث مراكز السيادة في العمل الفني .
2 _ الحبكة وبفعلها يحتدم الصراع والإيقاع بين التنامي والخفوت ، ومن خلالها يمكن إعطاء العمل الفني بعداً درامياً .
3 _ واسطة التعبير أو وسيلة الاتصال المباشر في العمل الفني البصري واللفظي وتجسدت باللغة والموسيقى .
4 _ الموضوع الذي يسعى الفنان إلى توصيفه بمنجز بصري كطرح لفكرة يبغي منها حدثاً درامياً وصولاً للحبكة .
5 _ الأجزاء المكملة للعمل الفني الدرامي وهي ذاتها متواجدة في العمل التشكيلي ، وبمجموعها تولد تنظيماً يوحدها في العرض المسرحي وكذلك في المنجز التشكيلي لأن العرض المسرحي هو مجموعة صور بصرية متراتبة .













الفصل الثالث
إجراءات البحث

المنهج المستخدم : لقد استخدم الباحث المنهج التاريخي والمنهج الوصفي توافقاً مع سير البحث .
أداة البحث : اعتمدت الملاحظة أداةً للبحث .
مجتمع البحث : أعمال الفنان محمود صبري وعددها عشرة أعمال فنية .
عينة البحث : 1- ملحمة الجزائر ، 2 – نعش الشهيد ، 3 ـ نساء في الانتظار .
وقد اختيرت العينة قصدياً لأنها صورت درامياً لما يفرضه الواقع على الفنان .

تحليل العينة :

1 ـ ملحمة الجزائر .














عمل تشكيلي جداري نفذه الفنان بتعالق وتناص مع ( الجرنيكا للفنان بيكاسو الذي نفذها اثر مجزرة حدثت في قرية الجرنيكا عام 1937 ) .
نفذ العمل بالزيت على خشب المعاكس وتضمن شخوصاً متعددة ( فكرات ) توحي بالعدم والبؤس والجريمة .
لجأ الفنان في البناء الجمالي إلى الإنشاء المفتوح الخالي من الحدود المؤطرة للفكرة مما وضع شخوصه المؤثرة في مركز العمل ، كما ألغى المنظور وعالج التشريح وتصرف به بحرية ، بمعنى انه لم يفقد شخوصه أسس التشريح لكنه بالغ فيه مابين الاستطالة للأيدي والأرجل والرقاب والعيون .
تصرف الفنان بالسطح التصويري كفضاء تغوص فيه الأشكال هائمة تفكر بالخلاص من المأساة . كما حمل العمل بين جنباته تقنية استعارها الفنان من الموروث الحضاري القديم كتصرفه بالتشريح وإهمال المنظور ، فضلا عن تصرفه بالرؤوس إذ وضعها بصورة جانبية بالنسبة لموقعها إزاء المشاهد .
عناصر الدراما
# الشخصية : وقد لجأ الفنان إلى تكثيف شخوصه على مساحة العمل ، وأعطى لكل واحد منه دوره المؤثر في المنجز استقراءاً واقعياً متحرراً ينحو حيال التعبيرية في الخط واللون وبعض العناصر الأخرى كالملمس الحاد بفعل الخطوط وصلابتها وعدم مرونتها .
# الحبكة : وهنا سبك الفنان تسلسل الأحداث بتناغم مع الموضوع الذي أحدث هزة إنسانية في المجتمع ، ولأن الفنان أكثر تواصلاً مع المجتمع جسد هذه المجزرة بمأساوية جمالية ، ولأن الحبكة تنتظم على وفق أحداث متسلسلة تحوي سبباً ونتيجة فقد أهمل السبب بوصفه حدثاً وقع ، واستعرض النتيجة التي تفرزها مأساوية المشهد ، كما لم يركز الفنان على شخصية محورية بوصفها هدفاً ثابتاً للحبكة ، إنما أعطى لكل شخصية حضورها الفاعل لاشتراكهما في الموقف ، أما الهدف الثالث والمتضمن انتظام المادة حول الفكرة الأساسية ، فسعى إلى ترابط شخوصه مع بعضها .
# اللغة : جهد الفنان أن يختزل مفرداته إلى مرحلة توحي بحوارية المنجز مع المتلقي بلغة مشتركة بسيطة .
# الفكرة : مثلت الفكرة الإطار العام للمنجز بوصفها النسغ الواصل بين الحادثة الواقعية وما يحمله الفنان من تداعيات واستنهاضات ذاتية حيال المشهد .
أما الصورة الدرامية فقد نحى الفنان في بناء أحداث العمل بناءاً ملحمياً انبثقت منه تسمية العمل ، فتولدت من فكرته ذروة العمل وحبكته ضمن سياق منتظم لم يتضح فيه الجانب المضاد للقيم الإنسانية ( مجرمو المجزرة ) فعمد إلى إخراج رمزية الاحتلال خارج العمل ولا وجود للمحتل ضمن هيكلية المنجز .















2 ـ نعش الشهيد .











عمل نفذه الفنان بتناص مع تقنية أعمال الفنان بيكاسو في بعض أعماله التكعيبية وان كان الفنان هنا ينفرد بخصوصية الطرح التكعيبي والفنان جواد سليم في بعض منحوتاته .
يتأسس العمل من كتلتين كبيرتين ، كل واحدة تضم عدداً من الشخوص ، لذا عمد في بنائه الجمالي إلى التوازن ليعتمد الإنشاء المستطيل .
كما لجأ إلى التسطيح والمساحات بفعل إلغاء المنظور ومحاولة التصرف بالتشريح مما يتجه إلى التعبيرية والتكعيبية .
كذلك وضع شخوصه لاسيما ( حاملي النعش ) وبتبسيط يقترب من الختم الاسطواني كأحد عناصر الفن العراقي القديم بتكرار الشخوص . واختزل مساحة السطح التصويري في الخط واللون .
عناصر الدراما
# الشخصية :سعى الفنان إلى تنظيم شخوصه بشكل متوازن فتوضحت في الكتلتين قيمة هذا التوازن لاسيما ( حاملي الشهيد ) وكتلة الجندي المقابلة ، رغم انه سعى إلى توزيع الأدوار على شخصياته بشكل معتدل مابين الانتكاسة والانهيار النفسي وبين سمو القيمة الإنسانية ورفعتها ، ويعد هذا العمل لواقعيته توظيفاً مقروءاً للمشاهد وليس دخيلاً على ذهنيته وسلوكه اليومي .
# الحبكة : ارتكز العمل إلى الفعل الإنساني السامي المتولد من بذل الأرواح والمهج دون القيم الأخلاقية فعمد الفنان إلى تأصيل شخصية الجندي في استقباله لشخصية الشهيد لتبقى الشخصيات محور الفعل الدرامي في المشهد .
# اللغة : واللغة هنا هي ذاتها في كل منجز فني جمالي تشكيلي صوري محال من مشهد العرض المسرحي وخاصة في هذا المنجز ، فاللغة مقروءة للمتلقي لأن المشهد بمأساويته يكاد لايفا رق مخيلته .
# الفكرة : فكرة العمل واقعية سعى الفنان إلى إضفاء القيمة التعبيرية تقنياً ليبث حالة التوافق العاطفي الوجداني والفكري مع المشهد رغم تماس المتلقي لهذا المشهد باستمرار .
أما الفعل الدرامي فقد بناه على أسس معرفية مسبقة أن الشهادة تسبقها حرب أو فعل معادي إجرامي ، وبقصدية أخرج الفعل المعادي من اللوحة إلا انه ركز على الفعل المأساوي الناتج وتأثيره على المجتمع ، وتتمثل في إنه وضع الجندي في مركز العمل لغاية وظيفية افترض فيها الفعل الناتج من وجوده لأن الجندي هنا يمثل الفعل المقاوم والفعل المتصدي للعدو فضلاً عن انه ينظر وينتظر الكتلة المقابلة ( حاملي النعش ) انه سائر في ركب الشهادة ولامناص من الرجعة .

3 ـ نساء في الانتظار .















عمل فني بتقنية تعبيرية يستنطق فيها الفنان بؤس المجتمع لأنه يعالج موضوعة اجتماعية شديدة الحساسية والأهمية ، ويفرز نتيجة ( الانحطاط الخُلُقي ) بسبب ( الفقر ) ، فصور النساء في حالة مزرية ، لذا نقل لنا مشهداً يوحي بالازدراء لأن السقوط في أشده يكمن في ان الإنسان يباع كسلعة مباحة وبثمن بخس .
لقد عالج الفنان موضوعته بناءاً على التكوين المغلق مكيفاً عناصر التكوين لغاية وظيفية ترتقي بالعمل جمالياً . فحدد بخطوطه السود نسائه وقد اختزل اللون صريحاً بحال يكاد يقترب من التجريد ، ومع انه تصرف بالتشريح لكنه لم يهمل المنظور كلياً ، إلى جانب استخدامه خطوطاً حادة وبغزارة ، وهذا يعد استقراءاً للأعمال الوحشية لاسيما رائدها ( ماتيس ) في الربع الأول من القرن العشرين .
عناصر الدراما
# الشخصية : أكد الفنان على الشخصية المركزية ( ذات الرداء الأزرق ) وتأثيرها على الشخصيات الأخرى ، ولم يغفل دور تلك الشخصيات في المجتمع وتأثيرها ، كما انه ولغاية وظيفية درامية وضع إحدى شخصياته واقفة في سعي لتجسيد الواقعية عبر ازدرائها للمجتمع ( المتلقي ) فحادت عن مقابلته .
# الحبكة : وتركزت على الفعل الرئيس وهي الممارسات المشبوهة في بيوت الدعارة وما تمارسه هؤلاء النسوة في إغواء الشباب وحرفهم عن جادة الخلق لرغبة في اللهو واستحصال الأموال منهم ، وركز الفنان على شخصية مركزية وهي المسؤولة عن كل مايدور في هذه الأماكن ، وتبقى الشخصيات الأخرى تابعة لها لذا فهي تحظى بخشية الأخريات .
# اللغة : هنا الفنان افترض لغة العمل بأنها لاتختلف عن نموذجيه السابقين على إنها لغة بصرية يمكن الاتصال معها بيسر ،
# الفكرة : فكرة العمل واقعية تعالج موضوعة اجتماعية تمس المجتمع بحساسية لتردي المفهوم القيمي وماتفرزه عملية بيع شريحة من البشر لقيمهم بثمن زهيد .
أما الصورة الدرامية فقد جسدها الفنان في حالة يستهجنها المتلقي بسبب الآلية التي وضعت عليها النساء وهن ينسلخن من عفافهن ، إذ جردن أرجلهن من الملابس التي تسترهن وفي هذا دلالة عن انزياح الخلق عن مساره المتعارف عليه فضلا عن جلستهن المريبة بانتظار القادم الجديد ( ضحية أو زائر مفسد ) بعد تقديمهن الإغراءات والاغواءات ، والى جانب هذا التشرذم الأخلاقي يظهر لنا الفنان صورة معلقة على الجدار يراها الفنان وكذلك الباحث إنها الشخصية الحامية لهذا الانزلاق ليفترض الفنان من هذه الصور أن الفعل الدرامي تجسد بتآلف الشخوص مع بعضها على أساس الكسب المادي غير المشروع ، وان قيم الإنسان تتهاوى بمجرد وجوده كسلعة يمكن أن تشترى وتباع .


























الفصل الرابع
نتائج البحث

النتائج ومناقشتها :
من خلال تحليل العينة والاطلاع على بعض الأعمال ( مجتمع البحث ) توصل الباحث إلى النتائج الآتية .
أولا : تبنى الفنان في مضامين لوحاته القيمة المعنوية للإنسان بوصفه محور الكون الذي بنت كل تلك الإشكاليات أسسها عليه ، ولم يكن الفنان هو الوحيد في التصدي إلى موضوعة الإنسان ، بيد انه سلط عليه الضوء من جوانب خاصة سياسية أم اجتماعية أم فكرية . لذا جسد الفنان الصورة الدرامية في منجزه التشكيلي لدرايته وفهمه العميق للقيم الروحية الإنسانية فضلا ً عن إيحائه للمتلقي في التعامل العاطفي التلقائي مع المنجز الحدث .
ثانيا : سعى الفنان في أعماله إلى مزاوجة الصورة التشكيلية مع الصورة المتحركة فبثت الصورة الدرامية بوضوح .
ثالثا : كما سعى إلى مشاكسة المتلقي من خلال الانفعال الذي يولده العمل على إن الصورة التشكيلية تمس المتلقي في دقائق حياته التفصيلية ليرى المتلقي ذاته في كل عمل .
رابعا : لم يفصل الفنان موضوعه السياسي عن الهاجس الاجتماعي ، لذا جسد حالة الحرمان المتسلط على المجتمع بفعل الضغوط السياسية .
خامسا : يرى الباحث أن الأعمال لاتكتمل صورتها التشكيلية إلا بوجود الثالوث الفنان والعمل الفني وانفعال المتلقي .
سادسا : اعتمد الفنان اسلوب الإنارة المسرحية في أعماله لغاية وظيفية ينبغي منها استثارة الفعل الدرامي بوصفه الطريق الأصوب والأيسر في تفعيل المجتمع .
سابعا : لم يجسد الفنان القيمة الدرامية بشقيها الدرامي والتراجيدي لتلتقي بالتراجيديا لأن المضامين المأساوية التي يعرضها الواقع السياسي المتأزم تنحو حيال التراجيديا ، لذا عمد إلى استثارة العواطف لغاية تعبوية .
ثامناً : وبفعل الخلفية الأيدلوجية للفنان وقراءته للواقعية الاشتراكية أدباًً وفناً وسياسة استطاع أن يوظف منجزه ضمن هذا السياق .

الاستنتاجات :

على ضوء النتائج التي توصل لها الباحث يمكن استنتاج مايأتي :
إن الفعل الدرامي يؤطر مضامين معظم الخطاب البصري للفنان الراشد محمود صبري مرتكزاً إلى الانسان كقيمة معنوية بغية استمالة المتلقي للتعاطي مع الحدث برفعة واحترام ، على إن الفنان والباحث يؤمنان بان عملية التلقي تكتمل بحضور الحالة الانفعالية للمتلقي ، وان القيمة الدرامية لاسيما الجانب التراجيدي تفترض استثارة العواطف لغاية تعبوية تتلازم مع الطرح الأيدلوجي للفنان محمود صبري .


المقترحات
يقترح الباحث أن تثبت الأعمال الفنية ذات المضامين الدرامية في دور العرض المسرحي وإن لم تكن ففي قاعات عرض المسرحيات لكليات ومعاهد الفنون الجميلة .
التوصيات
يوصي الباحث بدراسة أعمال الفنان الرائد محمود صبري لاسيما المرتبطة بالنظرية العلمية المسماة ( واقعية الكم ) .



الملحق
الفنان في سطور
محمود صبري مفكر وفنان عراقي ولد سنة 1927 ، حصل على شهادة الدبلوم في علم الاجتماع سنة 1949 في انكلترا ، درس الفن بشكل شخصي ولم تكن دراسته في معهد أو أكاديمية للفنون, لكنه استطاع بجهوده الذاتية أن يكون اسماً بين أقرانه من الذين درسوا الفن بالأكاديميات وقد لعب دورا ريادياً بارزاً في حركة الفن التشكيلي المعاصر في العراق .
بدأ اهتمامه باللون ونظريات اللون سنة 1967 حتى توصل في سنة 1971 إلى فكرة ( واقعية الكم ) حيث أقام معرضاً له تحت هذا العنوان في براغ ونشر بيانها الأول بالانكليزية .
وفي سنة 1973 جرى نشر البيان بالعربية مع ملاحق إضافية تحت اسم بيان ( واقعية الكم ) .
شارك في معارض جماعة الرواد حتى عام 1962 ( م 27 . ص ) .
شغل مناصب مهمة آخرها مدير عام مؤسسة المعارض العراقية بعد ثورة تموز 1958 .
استقر في العاصمة الجيكية ( براغ ) منذ عام 1963 وله اهتمامات سياسية وفنية منها مؤتمر بيروت للقوى والحركات والشخصيات العراقية المعارضة للنظام الدكتاتوري ، وكتب العديد من المقالات في هذا الشأن وبلغات عالمية مختلفة .
يعد من الفنانين العراقيين المعاصرين المثقفين وهو صاحب نظرية ( واقعية الكم ) العلمية وتعني " مزج الفن بوظيفته الاجتماعية التي تميز بها عبر العصور : تمكين الانسان من السيطرة على الطبيعة وتغييرها _ وبالتالي تغيير نفسه " ( م 28 . ص 154 ) .









المصادر
حسب ماوردت في متن البحث
1 - منير البعلبكي ، د. رمزي منير البعلبكي ، المورد الحديث. قاموس انكليزي – عربي حديث ، دار العالم للملايين ، ط / 2 ، طبع في لبنان ، كانون الثاني – يناير 2009 .
2 – C.L.BARNHART, JESS STEIN. THE AMERICAN COLLEGE DICTIONARY. RANDOM HOUSE .NEW YORK , L.W.SINGER COMPANY.SYRACUSE .
3 ـ حسين رامز محمد رضا . الدراما بين النظرية والتطبيق . الطبعة ( 1 ) .المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت . لبنان . آب ( أغسطس ) 1972 .
4 ـ أرسطو . فن الشعر . ترجمة وتقديم وتعليق د. ابراهيم حمادة . مكتبة الأنجلو المصرية . 1977 .
5 - مارتن أسلن . تشريح الدراما . ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت . وزارة الثقافة والفنون . سلسلة الكتب المترجمة ( 51 ) .الجمهورية العراقية 1978.
6 - د. رشاد رشدي . نظرية الدراما من أرسطو إلى الآن . دار العودة . بيروت . السنة بلا . ص 17 .
7 – د. فايز ترحيبي . الدراما ومذاهب الأدب . ط 1 . المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . بيروت . 1988 .
8 ـ عبد الكريم عبود عودة المبارك . بنية النص وتحولاتها في تشكيل العرض المسرحي . أطروحة دكتوراه . كلية الفنون . جامعة بغداد . تمثيل وإخراج . 2000.
9 ـ حسين رامز محمد رضا . المصدر السابق .
10 - ميشال ليور . فن الدراما . ترجمة احمد بهجت . منشورات عويدات . بيروت 1965 .
11 – مصطفى عبيد دفاك التميمي ، تناول شخصية المرأة العراقية في الدراما التلفزيونية 1968- 1988 . رسالة ماجستير غير منشورة . كلية الفنون الجميلة . جامعة بغداد . 1989.
12 – د. عبدالعزيز حمودة . الصورة الدرامية . مكتبة الانجلوالمصرية . السنة بلا .
13 - حسين رامز محمد رضا . المصدر السابق .
14 – د. رشاد رشدي . المصدر السابق .
15 – س.و. داوسن . الدراما والدرامية . ترجمة جعفر صادق الخليلي . منشورات عويدات . بيروت . السنة بلا .
16 – أرسطو طاليس . فن الشعر . ترجمة عبدالرحمن بدوي . دار الثقافة . بيروت . 1973 .
17 - ثامر مهدي ، دراسة تحليلية لبعض النصوص المسرحية المقدمة على المسرح المدرسي (1978- 1979 ) . جامعة بغداد . مركز البحوث التربوية والنفسية .
18 - د. ميشال عاصي ، د. أميل بديع يعقوب . المعجم المفصل في اللغة والأدب . دار العلم للملايين . بيروت .1987 .
19 – مصطفى عبيد دفاك التميمي ، المصدر السابق .
20 - سامي عبد الحميد . تقديم أولي للملامح الدرامية في مسرحيات جليل القيسي ، المجلة القطرية للفنون . العدد 1 . كلية الفنون الجميلة . جامعة بغداد . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي . جمهورية العراق . كانون الأول 2001 .
21 - سامي عبد الحميد . المصدر السابق .
22 - سامي عبد الحميد . المصدر السابق .
23 - أرسطو . المصدر السابق .
24 – أزهر داخل محسن . الفن بين مفهومي التشكيل والحرفة الشعبية ( دراسة في عناصر التكوين ) . مجلة فنون البصرة العدد ( 2 ) . كلية الفنون الجميلة . جامعة البصرة . 2005 .
25 - عادل كامل . الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ، مرحلة الرواد . وزارة الثقافة والإعلام . دار الحرية للطباعة . 1980.
26 – أزهر داخل محسن . المشهد الحسيني في الرسم العراقي المعاصر . مؤتمر العلوم الإنسانية . جامعة الكوفة . النجف الأشرف . جمهورية العراق . 2008 .
27 - فن جديد لعصر جديد- بمناسبة المؤتمر الأول للتشكيليين العرب\نيسان 1973/ بغداد .
28 – ملف الفنان محمود صبري . مجلة الثقافة الجديدة .العدد 328 . 2008 . www.quantumrealism.co.uk .



2009


المؤتمر العلمي الحادي عشر لجامعة بابل

الدلالات الفلسفية والجمالية للرمز في الفن العراقي القديم

يمتد تأثير المتغيرات البيئية في بنية أي مجتمع إلى جميع منافذ الحياة كالفن والميثولوجيا* لاسيما أن منافذ الحياة تتضح تأثيراتها وتتعالق فيما بينها كتأثير أو تعالق العقائد والفن والميثولوجيا أو تأثرها اجتماعياً بالمعطيات المتوافرة، فلولا وجود دجلة والفرات لما ظهر فن الفخار والنحت بهذا الشكل الذي يساوي أو يفوق تقنياً وجمالياً ما تواجد في أية منطقة أخرى مجاورة . واستحداث نظام الري عبر شق القنوات كامتداد للأنهر التي تُغني الزراعة وتنميها لأن قوة نفوذ الحضارة يكمن في المعطيات ، وأهمها الماء ، وبدونه تفقد الحضارة من محتواها الجزء الكبير إن لم تكن قد فقدت كيانها برمته لأن الماء عنصر الخلق والإبداع الفكري الحضاري ، واستناداً إلى ذلك فأن المرجعية المعرفية التي ترى الماء أصل الوجود الحضاري وقابليته في صهر الفعل الإنساني والطبيعة ضمن نسق واحد أساسه نزعة فلسفية أغنت الفكر العراقي القديم – أن الخليقة تلد من الأصل – كتصور فلسفي علته اندماج الطبيعة والذات الإنسانية (م 27 ص 14،15) ، والماء كمعنى دلالي للحياة ، تزداد به الأرض خصوبة وإنتاجا ً، أكدته الميثولوجيا العراقية القديمة في قوة عناصر استنزال المطر كالفتوة والشباب خصيصتا الإله (تموز) كارتباط نفسي بهذه القوى، وبفعل انصهار الفنون والواقع الفكري توصلت الفنون والآداب إلى كينونتها بتصوير الكهنة وقسوة الحياة عقب الفشل في إنزال المطر سحرياً، فصورت المعاناة مصداقاً لعزوف الفنان الرافديني عن الواقعية إلى التجريد والرمز في تصوير الأشكال الآدمية اختلفت عنها في التصوير الواقعي للحيوانات (م32 ص 2،3) لأن " الفن .. يتسامى فوق مستوى الواقع، والتعبير عن الجمال يقتضي علوه عن الطبيعة والواقع، والجمال هو التجلي المحسوس للفكرة" (م 20 ص 90) بافتراضات مسلْمة أن الفن العراقي تناغم للجمال والبعد الفكري فيه . تسعى الدراسة إلى استكناه نتائج توظيف الفن العراقي القديم للرمز من الناحيتين الفلسفية والتقنية كتطورية جمالية ، واستشفافاً لمقتضيات الفنان العراقي القديم بتفعيل الرمز كمحفز اجتماعي وطقوسي تبوء الرمز مكانة ذات مغزى .
وتحديداً لتعريف الرمز كمصطلح فقد ورد صريحاً في القرآن الكريم في الآية (41) من سورة آل عمران بقوله تعالى ((..آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً …)) تنويه لأمر الخالق إلى زكريا بكف لسانه عن الكلام والنطق ، والتعامل مع الآخرين مكتفياً بالإشارة والإيماء بالشفتين عرفاناً لاستجابة رب العالمين دعاءه أن يرزقه غلاماً (م26 ص 74) ، إلا أنه ورد بألفاظ أخرى متباينة ولصفات أشد تبايناً كالتين والزيتون والفجر والعاديات والشمس والقمر وغيرهما مما أزدان بهم القرآن الكريم ( م13 ص42) ، ويسمى الرمز في كلام العرب (فن اللَحْن) من الفطنة والبديهة والتورية (لحن زيد لعمر) قال له ما يفهمه دون غيره (م 35 ص33) وظهر معنى اللحن في القرآن الكريم في الآية (30) من سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تبارك وتعالى (( .. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..)) ، دلالة لمعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المنافقين أصحاب القلوب المريضة في تلاعبهم بالألفاظ وصرف الكلام عن صيغه المعتادة (م 26 ص571) ، والرمز ورد بمعنى الإشارة والإيماءة بالشفتين والحاجبين (م 17 ص256) ،أو الإيماءة بالحواس والأعضاء لدى الكائنات الحية (م 13 ص 39) وجاءت كلمة الرمز (Symbol ) عبارة عن صورة أو تمثال أو إشارة أو علامة تدل على معنى الرمز ، والرمز فن قائم بذاته يُدّل به على الأشياء المعنوية بدافع التشابه والتماثل فيما بينها وقد تداوله الأقدمين في الأمور العقائدية والأدبية وعُدَّ الصينيون من الأوائل الذين استخدموا الرموز في زمن سابق غير محدد (م 8 ص668) ، والرمز تعبير اصطلاحي يحل محل غيره ويصبح بديلاً عنه كعلاقة اصطلاحية رمزية تستخدم استخداماً متصاعداً لتمثل مجموعة من الأشياء أو نوعاً من أنواع العلامات (م 38 ص289) ، والرمز عند الجماليين ومنهم الفيلسوف الألماني هيغل (1770 – 1831 م) هو أُولى مراحل الفن (م 14 ص255) ، فيرى أن ابتكار الشرق للرمز كان البدايات الفعلية للفن دعاها " الرمزية اللاواعية" وأن للرمز دلالة ما بين المدلول والشكل ، وربط الإبداع الرمزي بالميثولوجيا التي تعد إبداعاً روحياً تنطوي عليه رموز عميقة بالتأصل وأفكاره عامة (م37 ص10،11-20) ، وتراه (سوزان لانكر) بوصفها " أن الفن رمز …" (م 18 ص10) ، أما يونك فالرمز عنده "أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً ولا يمكن أن توضح أكثر من ذلك بأية وسيلة أخرى" ¬(م7 23 ص8) . يبرز الرمز كنظام جديد مطابق لموضوع مستخرج من التشخيصية التي لا تتغير هويتها بتكرار الشكل أو تجديد تصويره (م4 ص23) لأن التشخيصية ظاهرة معتادة تحولت بفعل التغير في الذهنية المتحفزة إلى نظام جديد خفي في الشكل المعبر عن الطبيعة فكان التجريد ذو القيم الجمالية التي تخدم الغرض الفني (م21 ص23) وأن الإشارة والإيماءة والرمز تمثل إحدى طرق الدلالة ولها معنى غير مباشر في الكشف عن هدف ما بأسلوب لفظي وارتباطه مع صفة الخفاء (م13 ص41) ، أما التعريف الشائع للرمز هو تنويه بإشارة مرئية إلى شيء خفي (م7 ص54) ، فهو دلالة خارجية تحتوي على مضمون ينبغي استحضاره وهو غير ملزم أن يكون مطابقاً للمعنى حتى أن الفنان حين يستحضر الصفة باختياره الرمز لا يفترض عليه أن تكون الصفة مطلقة لشيء ما أو محددة به إلا أنها تكون الغالبة فصفة المخادع غالبة على الصفات الأخرى (م37 ص 12،13) ، وأن الرموز شملت العلوم كافة كالرياضيات ، أما في الفنون التشكيلية فقد سميت إحدى اتجاهات الفن التشكيلي الحديث بالرمزية يفترض أساسها التقني والفكري ما يفرزه العقل الباطن عن طريق اللاوعي، والإنسان الرافديني استخدم الرمز كدلالة اجتماعية عقائدية أفرزته منجزات فنية تعبر عن توجهات المجتمع الفكرية ونوازعه تلتقي عندها الطقوس التعبدية والسحرية ليرتقي فيها المنجز بالمضمون على الشكل (م 9 ص30) ، وتوخياً للحماية تعددت آلهة السومريين لتؤول إلى رموز أثرْت الفن بروحانية طافحة بالحياة للواقع ضمن العالم الديني الأوسع لأن الفن الديني يشمل الدنيويات والمقدسات،وأن المقدسات ذات الهيئة الحيوانية لها دلالات رمزية تقارب في تصويرها الطبيعة كما توضح الرمز في المجسمات الحجرية في عصر الوركاء وما تلاها لينبثق ( الشكل 1)
كتعويذة في مجسم فيه ثقبين دائريين في الرأس رمزاً لآلهة العين استخدمت
للأغراض الروحانية والطقوسية ، تعد من التأويلات الشكلية للطبيعة (الواقعية)
نحو تجريدها من خلال قراءة بنية الشكل في المعنى (م 11 ص 128،129) .
أن الفن العراقي القديم بتأكيده على التجريد أمام انحسار الشكل الطبيعي
(اللاشكلية في الفن) ، أدت إلى أن تخبو قيمه في الرمز، لأن العقائد العراقية
القديمة كعلة ميتافيزيقية خارج حدود الإدراك البصري آلت ذهنيته إلى تصوير الآلهة
على ما يرمز لها ولأنه الوجه الأخر للفكر الإنساني فهو زاخر بالرموز التي تمثلت
بتباينها في الشكل والمعنى بفرض اجتماعي ونفسي ووظيفي، والمرأة في المنجزالرافديني يتراقى فيها الرمز ويُعلي منها كقيمة خصبية ، صورت (الآلهة الأم) كرمز ديني يبثه المنجز لشكل امرأة بدينة واضعة يديها على صدرها، مبالغ في حجم ثدييها ووشمت* أجسادها يجسدها شكل الأم والطفل (الشكل 2) فضلاً عن الرموز الخصبية الأخرى الدائرة والمثلث للحيوان والشكل المعيني رمزاً للسمكة والخط المنكسر ثم الشكل المربع للنباتات، وأن اختزال الصورة إلى الشكل المجرد البسيط اتجاه تقني وفلسفي أتبعه الفنان الحديث في رسم الطبيعة (سيزان، ما بعد الانطباعية)، وما الزخارف في النتاجات الفنية إلا تجريدات اعتمدت إلى عناصر منها تضاؤل الشكل الطبيعي وتحقيق الشكل الهندسي تعبيراً لغاية لها بنية اختزالية (م21 ص 41،42،43) .
أما رمزية تشابك الأيدي سمة الفن السومري في عصره الذهبي وما بعده (الشكل 3) كدلالة للصلاة وللعبادة المطولة مفادها صفة الخلود ضالة الإنسان العراقي القديم ، وتدفق الماء من الإناء التي تحمله الأيدي المتشابكة في بعض تماثيل الآلهة كتذكير بمنافع السماء على الأرض (الشكل 4) (م 5 ص41) .














أما القيم الجمالية فأنها كما رافقت الإنسان العراقي منذ صناعاته الأولى للفخاريات وتحسيناته في الشكل والمادة واغنائها بالزخارف والأصباغ للمحافظة عليها (م 22 ص 29). كذلك الرمز قد حظي بالإطار الجمالي الذي فرضته المعطيات عليه ومنها استبدال الصور والأشكال بالرموز والتجريدات عبر أدراك قيمة الفن بابتعاده أن يكون شيئاً مادياً استذكارياً وأصبح تنويراً عقلياً انحسر التشخيص منه ليصبح اختزالاً لا يمت للشكل التصويري أو التشخيصي بأية صلة عينية ¬(م 4 ص 72) وهنا يظهر سبق الفنان العراقي القديم كآلية اشتغلت في (الفن الحديث) الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا أبان ظهور حركة الانطباعيين الفرنسيين في الفن والأدب التي ساندتها النظرية الشكلية* إحدى النظريات النقدية في الفن الحديث إذ جاءت كرد فعل وتحد مباشر لنظرية المحاكاة الجمالية التي ترى الفن مرآة للواقع في محاولة ترديدية غايتها إيضاح الصورة في الشكل والمضمون (م 16 ص253) .
ومنذ أن ظهرت الكتابة في الوركاء تطورت وانتقلت على مر العصور لتؤول في عصر جمدة نصر من التشخيص (الرموز والعلامات) إلى مقاطع ذات منحى صوتي وإشاري على شكل خطوط مسمارية (م 3 ص114) والكتابة منذ نشأتها وسيلة للتدوين اللغوي الذي يحمل معنى دلالياً للغة في دلالتها الشكلية (المقروءة) فظهر الخط كإشارات ورموز يحمل قيماً جمالية كثيرة توائم خصوصيته وكيانه عبر طبيعته الانسيابية والتكرارية فتبرز هويته الجمالية مرتكزة إلى شكله المقترن بجذوره الجمالية والحضارية (م 21 ص77 ،82) ، والرمز كان مستخدماً في البدايات الأولى للكتابة التي بدأت صورياً ما لبثت أن تحولت إلى رموز لأفكار تعبيرية بعيد عن التشخيص
وبالتالي تحول الرمز إلى اصطلاح كتابي أطلق عليه الكتابة الصورية المقطعية وبالتحديد في
الفترات المتأخرة من ظهورها ومعنى الاصطلاحية أنها رمزية متطورة عن سابقتها وصوتية
بمشاركة الصوت البشري مع الرمز، ويظهر أن الكتابة المسمارية تتكون من حروف تشبه
المسامير ( ) قوامه مثلث مقلوب قاعدته في الأعلى يستند على خط مستقيم عمودي ،
والشكل استمده الفنان السومري من الشكل الأنثوي من التقاء الفخذين والعانة يتولد الشكل
أعلاه( يشابه الحرف) ، لذا فأن الكتابة اقترنت بالعطاء (الكتابة ومنطقة الخصب) أنهما يغذيان
الذات الفردية والمجموع بما يميزهما فكراً وعدداً كخصائص أرقى الحضارات كالحضارة العراقية
القديمة (الشكل 5) (م25 ص359) .
جسد العراقيون القدامى الرمز بهيئة صور حركية باتجاهين على وفق صوره الظاهرة في المنجز
كعلاقة الإنسان مع الإله (العروج) وأفضل ما تمثله أسطورة كلكامش بشخصه بينما يكمن الاتجاه الثاني
وفق صورة الإنسان والحيوان في شخصية انكيدو أو ما يسمى بـ(الإشراق) ، ويتجلى في الاتجاهين تكامل موضوعي ذو قيمة جمالية وفلسفية ومثالية * ، لا سيما أن المثالية في الفن العراقي القديم متأتية من التكامل الجمالي في إغناء العلاقة بين الطبيعة والثقافة والعلم والإنسان، وتكون أكثر اتضاحاً في الطرح الميثولوجي عبر التقنية التجريدية التي تتضمن بين طياتها المعالجة التركيبية للأشياء (الشكل الآدمي والحيواني والإله ) وحكاية كلكامش وانكيدو نضوج في الشخصية الأسطورية ذات القيمة الجمالية من خلال الوضع المثالي لعلاقات عناصر الأسطورة فيما بينها(م 21 ص 25،26) ، والسومريون في مراحلهم المبكرة توصلوا إلى مشاهد معقدة كرموز حركية حجرية وفخارية برزت خلالها ممارسات طقوسية وسحرية انبثقت منها المنحوتات الآدمية ذات المغزى الديني أو السحري كالتماثيل المعبودة (الشكل 6) وانبثق (الشكل 7) يجسد تمثالاً
حجرياً لوحش أسطوري آدمي ذو رأس لبوة، وتعاود ظهور الرموز المركبة في
طقوسيات المجتمع الرافديني عبر المنحوتات المجسمة والبارزة بتصويرها الأشكال
الآدمية وارتباطاتها بالطبيعة تحرزاً ورهبة مما يحيطه (م 22 ص 44، 49، 51) ،
وتفرض الميثولوجيا السومرية أن الإنسان صَنعة الآلهة يفنى ، وحياته مرهونة بها
لذا اعتقد أن البطل (الشخص الرمز) أستسلم للأمر، فجاءت معتقداتهم الدينية تؤكد
على تأمين النموذج لما بعد الفناء فانصبت فلسفتهم الحياتية على مبدأ الخلق والبعث
والإخصاب.
كما حصن السومريون أنفسهم مما يحيطهم بفعل التغيرات المناخية فارتبطت
قابلياتهم الذهنية والإرادية بالضد عن عناصر الطبيعة أطرتها طقوسهم التعبدية في
الصلاة، وتواصلاً مع القابليات الذهنية أكدتها الميثولوجبا السومرية على مبدأ الخصب
والنماء التي تعد من أسس البركة والعرفان السومرية وقد تنامت الفلسفة العراقية
القديمة والمعتقدات لتكون في إطار جمالي عبر الفنون كالنحت والفخار والرسم، ينبري
الرمز منها كرد فعل للرهبة يصورها رأس الأسد المرتبط بالنسر( أيمدوكود)* دلالة
على عاصفة المطر الخيرة الملبدة بها سحب السماء السوداء متمثلة بجناحي النسر
المفتوحان على الجانبين (الشكل 8) ، وصور الإله المحتضر في كتاب الغصن الذهبي** تموز يهبط من الجبل عند اصفرار النباتات دلالة لقرب موتها جراء حرارة الصيف جالباً معه الخير والبركة بزواجه من اينانا (عشتار) في الربيع حيث خصوبة الأرض وانتعاش القطعان الحيوانية (م 22 ص 89،90،91،93) .
يفترض المنطق الميثوبي (mythopeic) تمازج الشيء وهويته (شبيه الشيء هو الشيء نفسه) ، فالرجل
كقوة طبيعية يشبه أحد الإلهة ويتلبس هويته ليمثل دور الإله كما تقمص
الملك (دموزي) هوية الإله (دموزي) الذي تزوج (اينانا) فأصبح (دموزي)
آله الخضرة والحشائش فكان الإله (دموزي) يحضر عند حلول الربيع (الشكل 9)
(م 36 ص 236) ، فصورت الآلهة بأوضاع مختلفة منها ما يحمل فأساً يمزق
السحب وإطلاق عواصف المطر، والثور كعنصر تذكير وفحولة تعالق برمزيته
والطبيعة والإنسان المؤله كرمز خصبي ديني (م 5 ص 98) .
إن سيطرة القوة الإلهية الخالقة لدى العراقيين القدماء على عناصر الطبيعة وما ينتج
عنها من ظواهر جعلها ذات كلمة فصل في إصدار الأوامر ، على الإنسان تنفيذها
(م 25 ص 156) ، وهو جوهر الفكر التأملي العراقي القديم في انقياد الإنسان للقوى
الكونية الكبرى يخدمها ويطيعها ويتضرع لها بالصلاة وتقديم القرابين (م 36 ص 237) ،
وأشارت العقائد إلى المعجزات التي تكرم الموتى وتهيأهم للحياة بعد الموت حتى أن الدلائل
قد أبانتها في قلة عدد أضرحة الملوك بالقياس إلى العدد الكبير من الملوك الذين حكموا
بلاد النهرين (م 22 ص 93) ، وتذهب البدايات الأولى للوجود في العقائد العراقية القديمة
إلى امتزاج الماء العذب (أبسو) بالماء الأجاج (تعامت) * ومنه كان الخلق الأول المتمثل
بالإلهة (م 11 ص 77) وإليه يرجع الاعتقاد في أصل معالم الكون الرئيسية وكيفية تأسيس
العالم وفي وصف الكون أشارت القصيدة
" … عندما في الأعالي لم يكن للسماء ذكر
ولم يخطر بالبال اسم لليابسة تحتها ،
عندما لم يكن إلا ابسو ، والدهمــا،
وحمو وتعامت – هي التي ولدتهم جميعاً
يمزجون أمواههم معاً ،
… عندئذ تكون الإلهة فيهم " ( م 36 ص 200 ، 201) .

أن فلسفة الحياة لدى الفنان القديم أطرت رموزه بمعان غنية بتعبيراتها ، فالمعزاة الدائرة والصليب المعقوف المؤلف من شعر النسوة (الشكل10) دلالة ذات معنى في ديمومة الحياة جسدها في اشكال بشرية وحيوانية ضمن حلقة دائرية لا نهاية لها (م 5 ص 92). كما أكد الفنان على
المرأة مشخصاً فيها المناطق الخصبة بعد أن زينت النساء بالقلائد
والأزرار ووشمت الخدود وقد صورت الإلهة على هيئة الأم
(الشكل 11) (م 6 ص 34،35) .
وقد عثر على مجسمات لنساء عاريات بولغ بتجسيم
أعضاء أنوثتها كرمز عقائدي مقدس (الشكل 5)
(م 31 ص21) وما عثر عليه في النصوص القديمة
كشف عن الدلالات العقائدية الدينية بارتباط الدين
والسياسة فصورت الملوك في قبضة الإلهة، والملوك
هم وكلاء الإلهة في الأرض، أما العبادة عند العراقيين مبعثها
الخوف من شرور الحياة، وأن الحياة الهانئة الآمنة تشغل تفكيرهم
فاتجهوا إلى الصلاة وتقديم القرابين لدفع الأذى والمرض وطلب
العيش الآمن أملاً في العصمة من الكوارث كما افرطوا في
الخضوع للكهنة حتى أضحت عقائدهم دنيوية خالصة بعيدة عن
الرؤية الأخروية، فوضعوا أنفسهم وعوائلهم في أمرة الكهنة وكانوا
يتفاخرون بخدمتها (م 11 ص 52-56) .
أن العقائد العراقية القديمة تميزت بالديمومة في وجودها، فالديانات التي اعتقدها ومارس طقوسها العراقيون المتأخرون هي ذات الديانات التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ، وأنها ارتبطت بعلاقة الإلهة فيما بينها خلال علو شأن إله دون غيره تبعاً للنظام السياسي وتبعاً للاستقلالية السياسية فظهر مبدأ التفريد ، كما ظهر مبدأ الشرك والتشبيه الذي ظهر واضحاً في العقائد البابلية ، فالشرك جاء من تعدد الإلهة (Polytheism) (م 28 ص 227) ، أما التشبيه فقد صور الإله كالإنسان في ممارساته الحياتية، له ما للبشر من نوازع وأحاسيس من قوة ومن ضعف وإن للإله قيماً أخلاقية فضلى عجز الإنسان عن إدراك ماهيتها لاسيما أن التشبيه يعد من أوليات المنطق في الميثولوجيا (م 25 ص169) .
إن العبادات العراقية القديمة هي رد فعل للتفسير العقلائي لعملية خلق الإنسان ، فلجأ إلى عبادة الإلهة والانصياع لأوامرها والخوف من عقابها فظهرت المعابد لمزاولة الطقوس العبادية التي تعددت وتباينت من فترة إلى أخرى، كما تعلم العرافة لطرد الشياطين والجن من جسد الإنسان وشفائه منها لأن المرض يعد نوعاً من المس الجنوني فظهر عالم السحر كارتباط الفعل الأرضي بما وراء المنظور العقلي أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر (الباراسايكولوجي)، وتمثل الفعل الأرضي برموز وإشارات متداولة أثناء ممارسة الطقوس العبادية كرفع اليدين ابتهالاً للآلهة واستغفاراً لها من الذنوب كما شخصتها الفنون في المنحوتات والرسوم كممارسة الركوع أمام الآلهة أو ممارسة ذبح وتقديم القرابين (الشكل 12) (م28 ص 256) .
ولقد كان يقين العراقيين القدامى بنفعية الإلهة من خلق الإنسان
الذي تيقن أن الحكم الإلهي جارٍ لا محالة وأن الموت قدر صائر
والخلود للإلهة حسب، إليها ترجع كل الفضائل الأخلاقية ولذا فأن
الإنسان العراقي القديم قد جُبل على فطرته أن يكون أسيراً
لرغبات الآلهة ومتطلباتها وأن حب الإنسان للخير والعدالة ما هو
إلا امتداد لحب الآلهة للخير (م25 ص 191) .
وظهرت تماثيل الأسس السومرية ذات الطابع التجريدي والرمزي
من خلال عناصرها التي عملت منها كالثور المضطجع وحامل السلة
ذات الشكل المستدق في الأسفل وغيرها غايتها جلب الخير والسرور
إلى الأرض بعد أن تُختزن بقوة خفية تدفع الأشرار إلى ما تحت
الأرض وتمنعها من إلحاق الأذى بالبشر (الشكل 13) (م 5 ص292) .
إن التكوين الفسلجي للإنسان بوصفه ذا عقل مفكر حتماً ستولد لديه
الرغبة في التعبير المرتبط بالعقائد وبخاصة أن الفن القديم كان لصيقاً
بالدين ودونه يفقد الإنسان ذاتياً للحياة من أفكاره الملهمة لاسيما أن
الفكر السومري الديني ما هو إلا تأملاً ذاتياً للحياة ، وأن الديانة
السومرية توضح أهمية الفكرة القائمة على الحياة بعد الموت ، كما
يمتلك الملك السومري السلطة الدنيوية حسب، وأن المشاهد المصورة
للآثار السومرية وما تلاها من حقب حضارية تظهر الملك في مواجهة
الإله طلباً للمعونة والحماية (الشكل 12) ، كما سجل الفنان العراقي القديم
الموضوعات ذات التأثير السحري والديني في المنحوتات التي وظفت الشكل
الإنساني حصراً ، جعلها مغزاها موضع المنحوتات التي تعبد (الشكل 6)
(م 11 ص 18،19،22،23) .










أن ارتباط الفن العراقي القديم بالعقائد لم يكن بمعزل عن الحس الجمالي للفنون عامة لذا يرى الباحث استناداً إلى ما ورثناه من مآثر الفن القديم مخالفته رأي (أندريه بارو) بإنكاره اهتمام الفنان العراقي القديم بالحس الجمالي في نتاجاته الإبداعية التي تشمل الرمز كأحد منافذ التقنية الذهنية في الفنون (م5 ص42) " لأن الخبرة الجمالية مظهر لحياة الحضارة ..وهي وسيلة لترقية تطورها …" (م14 ص 547) وأن القيم الجمالية شملت معظم النماذج الفنية الإبداعية عبر عناصر التكوين الجمالي كالتماثل والتناظر والإنشاء المتوازن بتوزيع الكتل وتوظيفها في الموضوعات الدرامية الأسطورية (م21 ص29) وبرزت الخطوط والأشكال الهندسية والتكرار بالخطوط المنحنية والوصول إلى الواقعية في النسب ووشمت بعض وجوه التماثيل النسائية لغاية رمزية وجمالية عن طريق التقنية في العمل كالضغط على الطين وعمل أشكالاً مدورة أو مثلثة ، وتجلى ظهور الطابع الجمالي عبر تنظيم العناصر الجمالية (م29 ص366) واستشرفت الجمالية للصور الميثولوجية في العديد من المنحوتات البارزة. و (الشكل 14) يوضح ختمان أسطوانيان يصوران مشاهد لحيوانات مفترسة وأشكال آدمية خيالية وأنهما يمتازان بجمالية تكوينية بفعل التوازن في الأشكال التي ملأت اللوحين دون أية مساحة فارغة بأسلوب درامي متطور فظهرت الرموز متداخلة مع بعضها دون الإقلال من القيمة الجمالية بتحليل يفوق التصور المعاصر (م22 ص 104،106) رغم جهل الفنان القديم بقواعد المنظور إلا أنه كان يرسم وينحت الأشجار والجبال بتناسق كما في (الشكل 15) (م5 ص29) وكما للخطوط والأشكال دلالات رمزية وجمالية كذلك للألوان دلالات ورموز قد تفوق الخط في وصفها عبر تماسك وبنية الإنسان وانفعالاته ، فالألوان لم تغب عن مشاهدات الإنسان القديم لاحتواء الطبيعة لها كما بالغت الألوان في تأثير مفعولها على حواس الإنسان وانفعالاته الذاتية ولو نسبياً من لون لأخر تبعاً للحالة النفسية وتأثيرها، لذا كان استخدام الإنسان لعدد يسير من الألوان كالأحمر والأخضر والأصفر وفقاً لما يمليه المستوى الذهني والنفسي من دلالات ومعان لهذه الألوان ذات المدلول المعروف سلفاً ، فالأحمر يشير إلى الصور الحياتية المتضادة كالحب والخطر والحياة والموت في حين أن السلامة والأمان لها دلالات لونية يعكسها الأخضر، أما الأصفر فهو نذير الشؤم والغيرة ، والتركيز على هذه الألوان لا يعني ترك بقية الألوان فالأبيض للنقاء والبنفسجي والأزرق للأمل وغيرها (م 33 ص 150،151) ، كما أن مصادر الألوان التي استخدمها الإنسان القديم تتمثل بالزئبق ووهج النار والزرنيخ الأصفر واللازورد وقد استخدمها في تلوين التماثيل وتلوين الكتابة والرسوم الجدارية وتزجيج الرسوم (م 19 ص 59،60) كما مثل السومريون اللون الذهبي رمزاً للإلهة (شمش) كما استخدم البابليون اللون الأحمر بشكل أقل (م 24 ص 275) .
المـصـــادر

1ـ القرآن الكريم .
2ـ الاعسم . د.باسم عبد الأمير . مفهوم الشكل في الخطاب المسرحي . مجلة الفنون القطرية.وزار التعليم العالي والبحث العلمي . العدد 1 . كانون الأول 2001 .
3ـ د. احمد سوسة . حضارة وداي الرافدين بين السومريين والساميين .دار الرشيد للنشر . وزارة الثقافة والأعلام . دار الحرية للطباعة . بغداد 1980 .
4ـ أرنولد هاوزر . الفن والمجتمع عبر التأريخ . ج1 . ترجمة : فؤاد زكريا . المؤسسة العربية للدراسات . ط2 . بيروت 1981 .
5ـ اندريه بارو . سومر فنونها وحضارتها . ترجمة وتعليق : د. عيسى سلمان . سليم طه التكريتي . سلسلة الكتب المترجمة . دار الحرية للطباعة . بغداد . 1980 .
6ـ البدري . هالة . الفنان والمرأة المتحف العراقي . مجلة الإذاعة والتلفزيون . وزارة الأعلام . الدار الوطنية للنشر والتوزيع . بغداد 1978.
7ـ برنارد مايرز . الفنون التشكيلية وكيف نتذوقها . ترجمة : د. سعد المنصور وفهد القاضي . مكتبة النهضة المصرية . القاهرة 1966 .
8ـ البستاني . فؤاد افرام . منجد الطلاب . دار المشرق . بيروت . ط 31 . السنة بلا .
9ـ البياتي . زينب كاظم صالح . الموروث الفني التشكيلي وإنعكاسه في الخزف العراقي المعاصر . رسالة ماجستير غير منشورة . جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة . قسم الفنون التشكيلية اختصاص الفخار . 2001 .
10ـ توماس مونرو . التطور في الفنون وبعض نظريات أخرى في تاريخ الثقافة . ج1 . ترجمة : محمد على أبو دره ، اسكندر جرجس ، عبدالعزيز توفيق جاويش مراجعة احمد نجيب هاشم . الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر . 1971
11ـ د. ثروت عكاشة . الفن العراقي القديم سومر وآشور وبابل . المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة . مطبعة الكتاب . بيروت . السنة بلا .
12ـ آل جنديل . د.نجم عبد حيدر . المثال والمثالية في الفن . المجلة القطرية للفنون . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي .بغداد 2001 .
13ـ الجندي . درويش . الرمزية في الأدب العربي . مكتبة النهضة . مصر 1958 .
14ـ جون ديوي . الفن خبرة . ترجمة : إبراهيم زكريا . مراجعة : د. زكي نجيب محفوظ . دار النهضة العربية . مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر . القاهرة . نيويورك 1963.
15ـ جون . ب . فيكيزي . الرمز والأسطورة. مجموعة مؤلفين . ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا . وزارة الأعلام . سلسلة الكتب المترجمة.دار الحرية للطباعة . بغداد 1973.
16ـ جيروم ستولنتيز . النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية . ترجمة : د. فؤاد زكريا . ط2 . الهيئة المصرية العامة 1981
17ـ الرازي .محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر . مختار الصحاح . دار الكتاب العربي . بيروت 1979 .
18ـ راضي حكيم . فلسفة الفن عند سوزان لانكر . دار الشؤون الثقافية العامة . مطابع دار الشؤون العراقية العامة . بغداد 1986 .
19ـ الربيعي . عبد الجبار حميدي خميس . موجز تاريخ وتقنيات الفنون . ط1 . دار البشير . مطابع الدار . الأردن 1998
20ـ زهير صاحب . الرسوم الجدارية المصرية . دراسة تحليلية المجلة القطرية للفنون . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي . بغداد 2001 .
21ـ آل سعيد. شاكر حسن . الأصول الحضارية والجمالية للخط العربي . دار الشؤون الثقافية العامة . مطابع دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1988 .
22ـ سيتون لويد . فن الشرق الأدنى القديم . ترجمة : محمد درويش . دار المأمون للترجمة والنشر . دار الحرية للطباعة بغداد 1988 .
23ـ د.شاكر عبد الحميد . العملية الإبداعية في فن التصوير . المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب .سلسلة عالم المعرفة 109 . مطابع الرسالة . الكويت 1987 .
24ـ الصراف . عباس . آفاق النقد التشكيلي . دار الرشيد للنشر . دار الحرية للطباعة . بغداد 1979 .
25ـ صموئيل كرايمر . من الواح سومر . ترجمة : طه باقر . مراجعة : د.احمد فخري . مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر .السنة بلا .
26ـ الطباطبائي .العلامة . مختصر تفسير الميزان . أعداد كمال مصطفى شاكر .
27ـ الطعان . د. عبد الرضا . أشكالية تأثير الفكر العراقي القديم في الفكر الأغريقي . دوريات آفاق عربية . العدد 2. السنة 2 . مايس 1985 .
28ـ طه باقر . مقدمة في تاريخ الحضارات . الوجيز في حضارة وادي الرافدين . ط /2 . دار البيان للنشر . بغداد 1973 .
29ـ عادل ناجي . الأختام الأسطوانية في عصر فجر السلالات حضارة العراق . ج4 . تأليف نخبة من الباحثين . دار الحرية للطباعة . بغداد 1985 .
30ـ عاصم عبد الأمير . الموروث الشعبي في الفن العراقي الحديث . آفاق عربية . العدد 1 . كانون 2 . السنة 14 . مطابع دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1989 .
31ـ د.عامر سليمان . أحمد مالك الفتيان . محاضرات في التاريخ القديم . وزارة التعليم العالي والبحث العملي . مطابع جامعة الموصل 1978 .
32ـ فوزي رشيد . تموز في الفن العراقي القديم . مجلة الرواق . وزارة الثقافة والفنون . العدد3 . تموز ، آب . مؤسسة رمزي للطباعة 1978 .
33 ـ ـــــــــــــــــــ . الألوان ودلالاتها . آفاق عربية . العدد 11. ت2 . السنة 16 . 1991 .
34ـ كلود ليفي شتراوس . مقالات في الأناسة . أختارها ونقلها للعربية د. حسن قبيسي . سلسلة الفكر المعاصر . دار التنوير للطباعة والنشر . ط 1 . لبنان 1983 .
35ـ الهلالي . محمد مصطفى . الجفر (الشفرة) والرسائل السرية عند المسلمين . مجلة الفيصل . العدد 123 . السنة 11 أيار دار . الفيصل للطباعة 1987 .
36ـ هنري فرانكفورت وآخرون . ما قبل الفلسفة . الإنسان في مغامراته الفكرية الأولى . ج1 . ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ط 2 . بيروت 1980 .
37ـ هيجل . الفن الرمزي . ترجمة : جورج طرابيشي . دار الطليعة للطباعة والنشر . بيروت . آذار 1979 .
38ـ يوسف خياط . معجم المصطلحات العلمية والفنية . دار لسان العرب .المطبعة العربية 1974 .