الأحد، 30 مايو 2010

الإبداع في التشكيل العراقي واستنهاض القيم الرافدينية الموروثة

الإبداع في التشكيل العراقي واستنهاض القيم الرافدينية الموروثة

بلاد النهرين ، ارض تنامت عليها القيم الإنسانية بوصفها نتاجات إبداعية في (التشكيل والأدب والأسطورة) أفرزتها البنية الذهنية والمعرفة الذاتية، فضلاً عن الوعي الجمعي للمجتمعات المتعاقبة على هذه الارض، تدعمها المعطيات الرافدة لتتكامل أهميتها بما يثري تلك المعرفة، وان ديمومة التطلع الإنساني كفيلة بتكامل رؤية قيمة المستقبل المعنوية والمادية وربطه جدلياً بجذوره واستنطاق الأثر كذاكرة متجددة باستخلاص العناصر المكنونة. هذه العناصر المتجذرة تمثل موروثاً حضارياً أثرى الفنان ليرتقي بمنجزه التشكيلي عبر العديد من الاستعارات، متجاوزاً عمقه الحضاري وديناميته في الآخذ والعطاء وتطلعه إلى تجارب الآخرين وبالخصوص التجارب الأوربية .
ان الأثر الحضاري وارتباطه والتشكيل العراقي المعاصر، ظاهرة أفرزتها توجهات الفنان المعاصر الواعية في إعادة تنظيم وتركيب نظم العلاقات كرموز موروثة بوصفها قيماً معطاة سلفاً لتمثل له استعارات شكلية وفكرية باشتراطاتها التراكمية الجمالية ليحيلها الى منجز تشكيلي إبداعي. وهي انتباهه واعية وارتباط صميم بالتاريخ دونما تسجيل حرفي بتلك الظاهرة، لا سيما ان ملامح التشكيل العراقي المعاصر اطرتها جملة امور، منها ما يتعلق ببنية الموروث الحضاري وطبيعة الطرح الفكري الذي يمثله على وفق صيغ معاصرة. المعاصرة التي تتأصل حينما يكون ارتباطها بكيفية إيجاد خصائصها في بلورة الموروث برؤية صائبة ذات مردود فكري متلازم وحياة المجتمع وحريته فتصبح المعاصرة إمكانية متفاعلة مع قيم الحاضر، فضلاً عن نهج الفنان العراقي للقيم الفنية العالمية. لذا فان الرؤية الفنية تمثل انعكاساً لطبيعة الموروث واثره، لان ظواهر الفن المتشردة بقيم الموروث الحضاري لها القابلية في إبراز مدى تماسك الفنان المبدع بأصالته. ويتحدد موقفه الفكري ورؤيته بما قدمه من نتاج. وكما ان الإبداع حالة ناتجة من تنشيط العقل (طبيعة الطرح الفكري) الذي أنضجته المخيلة والخبرات المتراكمة لذا فان الأصالة تمثل الجانب الأكثر نضوجاً في العملية الإبداعية يصفها الفنان (بول كليه) كالشجرة " ينهض النسغ من الجذور عالياً داخل الفنان ويجري خلاله وخلال عينيه". إنها إشارة الى كينونة الفنان ضمن فلكين هما الإبداع الذاتي وما يوازيه ويرتكز إليه في تأصيل العملية الجمالية.
ان المنجز الفني الأصيل هو نتاج مزدوج لسيكولوجية الفنان (مشاعره وانفعالاته) وتجاربه المكتسبة في الشخصية. يكون الموروث ناشطاً فيها سواء وعى الفنان ذلك ام لم يعه. لذا فتنشيط الأثر يضفي بجوانب مشرقة الى العمل الفني، بتعاظمه يكون الغور في أعماقه واستنفاذه أصعب. بيد ان الاستزادة في اكتشافه أشد انفتاحاً وأغزر.
ومثلما يكون الموروث أحد مكونات الشخصية المبدعة بعد تواصل كل منهما للآخر أصبحت المواقف والآراء المبدعة (النتاج المبدع) ذات قيمة مؤثرة بالإيجاب في تحليل ماهية الموروث عن وعي ودراية يرتقي بها المبدع لغرض التمييز ما بين الغث من السمين وما بين الميت الساكن من الحي النابض وتبقى عملية وكيفية انتقاء الأجزاء الحية في الموروث عملية ذاتية لا تقل شأناً من عملية توظيفه.
ان النتاجات المبدعة المعاصرة بارتكازها الى الموروث الحضاري بعلمية متحررة من خلال استحضار جوهر شخصية الماضي وإيصاله الى المتلقي بمفهوم معاصر هي إضافات الى روح الموروث، هذا الاستحضار يتوقف عند ثلاثة محاور منها ما كان موفقاً يرتقي صفة الإبداع والأصالة أو مفتعلاً يتعذر عليه كشف الملامح المتميزة في الموروث مما يحجم الظاهرة فتصبح مجرد أسماً ظاهراً أو تجربة ذات كيان هش ارتبطت بإمكانيات قليلة الشأن لم تمتلك أدوات الإبداع. ويعد الفنان الراحل (جواد سليم ) الرائد في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث من الأوائل الذين زخرت إنجازاتهم التشكيلية بجماليات الموروث الرافديني إذ استقى أعماله من توظيف الرموز والأساطير والقيم الجمالية وإضفاها الى مضامينه ذات البنية الاجتماعية حتى توجت إنجازاته في الرسم والنحت بتأطير الأصالة لها لمراقبته وامتلاكه أدوات تفعيل الموروث القديم (السومري والآشوري والبابلي) تدعمها رؤيته لمتغيرات المجتمع المعاصر (السياسية والاجتماعية والاقتصادية). وقد تجلت جميعها في عمله الخالد نصب العراق الكبير (نصب الحرية) المتكون من أربعة عشر رمزاً كأنها تولدت من طبعة ختم أسطواني على السطح لتكشف عن لافتة خُط عليها عبارات يراد بها تاريخ شعب.
كما عمقت الدراما والقيم الجمالية للنحت السومري أعمال الفنان (محمود صبري) في تكرار الأشكال ذات الطابع النحتي والرليفات الجانية الرؤوس لتفيض أعماله بمضامين واقعية واتجاه تعبيري في الخط واللون، وعمله (نعش الشهيد) صورة واضحة لأثر الختم الأسطواني اذ التكرار والتسلسل في الحدث الدرامي مع خلوها من المحاكاة الحرفية للأعمال النحتية الموروثة لان الفنان ارتكز في معالجاته التقنية المعاصرة للجانب الجمالي الذاتي.
وكان الفنان (فائق حسن) عميق الاستخدام للألوان ذات الهيئة المحروقة (الاوكر والبرتقالي) في واقعياته وأعماله الأكاديمية وحتى التجريدية التي تعد تأثر مباشراً بالألوان السومرية التي دونت ونوقشت بها الفخاريات. فضلاً عن معالجته المعاصرة للحرف المسماري كقيمة عليا تناهض الجوانب السلبية ذات المردود الفكري المعادي وعمله (الاستسلام ) يؤكد جوانب هذه الحوارية كما ان استلهام الموروث واستحضاره في تجارب وتعبيريات الفنان (ضياء العزاوي) تجلت من خلال دراسته للآثار العراقية القديمة، فاسقط سمات النحت السومري والأساطير البابلية على نتاجاته بتوظيف الرموز القديمة إذ صور الإله السومري (آبو) رمزاً مناهضاً للقيم والأعراف البالية فوضعه وجداناً حضارياً معاصراً في لوحته (شاهد من هذا العصر) فاستقدم تفاصيل الوجه العراقي القديم – وان لم يكن الوحيد- بخصيصته الدورانية وسعة حدقتا العينين وما تحمل من آسى داخلي له جمالية وشفافية دون ترديد ونسخ، بل بتوظيف ذاتي معاصر يرتكز الى التراكمات الحضارية والثقافية التراثية وعمله (الحلم والحالم )يمثل تلك الدراسة والمعالجة للواقع الاجتماعي والسياسي عبر استشفاف الموروث ودراسته وجدانياً وتعبيرياً.
وكغيره الفنان (فيصل لعيبي) لم يكن بعيداً عن التوجه الفكري والتقني للموروث الرافديني في معظم أعماله وعمله (المناضلون ينهضون) تمثل تحفة جمالية لا يمكن للتشكيل العراقي تجاوزها فقد ولف بين التقنية اللونية الأكاديمية وقربها حيال الألوان التعبيرية كضرورة مضمونية وبين تركيبة الأشكال المستمدة من سمات الموروث العراقي القديم بكل تمرحلاته، فوجوه الكتل جانبي بهيئة نحتية متضخمة واتصال أشكاله بأجنحة استقدمت من أجنحة الثور المجنح الآشوري دلالة لقوة المناضلون والشهداء وتساميهم، كاشفاً عن تناغم المناخ الواقعي وموسيقاه المترفعة عن الرذائل الدنيوية أما الفنان (محمد غني حكمت) فارتباطه وقيم الموروث الرافديني تجلى في منحوتاته ونصبه الغزيرة منتبهاً الى تراكمات الأساطير والملاحم السومرية ليسجلها بتقنية ذاتية وما عمله (ختم أسطواني) إلا تأكيداً لهذا التلاحم اذ شكله على هيئة أسطوانية على سطحها خمسة أفاريز لتمثل قراءة معاصرة للإناء النذري الكبير كأحد رموز الحضارة السومرية في الوركاء كذلك اقتفى دورانية وجوه معظم الشخوص النسائية في نصبه مثل (كهرمانة) معتمداً سعة حدقتا العينين والتحام الحاجبين فتمثل معالجة ذاتية جمالية لاثر شمولي. أما خزفيات (عبلة العزاوي) فكانت قراءة لمقتنيات المتحف العراقي القديم وعملها (الأمومة) يمثل دراسة أيقونية للرموز الرافدينية التي تجسد قيم العطاء والخصب والنماء في تضخيم مفاتن الشكل الأنثوي وتجسيد حالة الديمومة والإنجاب كذلك تقصى الخزاف (ماهر عبد اللطيف) القيم الجمالية في عمله (الحضارة) الذي شكله على هيئة كرة (العالم) مغطاة برقائق من الأسفل والأعلى تاركاً منطقة الوسط لكتابات بالحروف المسمارية التي انبثقت من العراق القديم قبل خمسة آلاف سنة ليصبح منها العراق مركز الإشعاع الفكري الحضاري.
ان تجارب الفنان العراقي وعائديتها الى دراسته لمناهج الفن الأوربي لم تمنعه من التفرد برؤية فنية ذاتية مستمدة من تاريخ حضارته في النحت السومري والآشوري والبابلي، فكانت رؤيته تفاعل للموروث والمعاصرة حتى امتلكت أعماله أصالة متجذرة واصبحت علائم الفنان واضحة في صرح الفن العراقي والدولي بارتباطه الصميم بالماضي المشرق عبر حريته المطلقة في أسلوب الطرح والتقنية كتعبير عن نماء التاريخ ووعي الشخصية الفنية. فتوظيف الموروث تمثل قضية وطنية وعملية إبداعية جمالية غايتها تهذيب القيم الروحية، كما ان الفنان في استنهاضه قيم الموروث تيقن ان الإبداع والأصالة في العمل الفني المعاصر مرتبطان بتعقب النتاج الإبداعي لمراحل التاريخ السابق لان (العمل الخلاق يستلزم توافر مرحلة تاريخية سابقة تمهد له كما يستلزم إمكانيات ذهنية ملائمة) فان تجربة الفنان الذاتية خلصت الى أيجاد أساليب فنية تشير الى المضامين الحضارية القديمة برؤية معاصرة وأشكال اكثر عصرية الى جانب توظيف الحرف العراقي السومري والزخارف الهندسية والحيوانية والأسطورة.
ان الفنان التشكيلي المعاصر يعد من الشرائح الواعية المفكرة بتصديه وترقبه لحالات المجتمع، فهو على دراية بأهمية الموروث العراقي القديم في استنهاض قيم المجتمع وان سيعه من توظيف الأثر بدلالاته الشكلية والفكرية تمثل نضجاً للإفرازات البيئية غايته إيجاد خطابات تشكيلية ذات ركائز متجذرة ، كما انصب وعي الفنان التشكيلي العراقي المعاصر إلى قراءة الموروث ومعايشته على وفق النتائج المستحصلة من التجارب التشكيلية العالمية في قراءتها الموروث الحضاري الرافديني وتعقبها المراحل التطورية في تقنيات الفن ومن ثم ابتداع إنجازات تشكيلية لأساطين الفن العالمي. لذا تدارس الفنان العراقي بنية موروثه الحضاري بحميمية أوصلته الى العالمية بركائز محلية على وفق حقيقة (عالمية المحلية) في الفن سواء كانت المعالجة اجتماعية أم سياسية أم تزيينية.





نُشر في الملحق الثقافي لجريدة الأخبار الصادرة في البصرة . العدد / 3 / نيسان 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق