الأحد، 30 مايو 2010

الدلالات الفلسفية والجمالية للرمز في الفن العراقي القديم

يمتد تأثير المتغيرات البيئية في بنية أي مجتمع إلى جميع منافذ الحياة كالفن والميثولوجيا* لاسيما أن منافذ الحياة تتضح تأثيراتها وتتعالق فيما بينها كتأثير أو تعالق العقائد والفن والميثولوجيا أو تأثرها اجتماعياً بالمعطيات المتوافرة، فلولا وجود دجلة والفرات لما ظهر فن الفخار والنحت بهذا الشكل الذي يساوي أو يفوق تقنياً وجمالياً ما تواجد في أية منطقة أخرى مجاورة . واستحداث نظام الري عبر شق القنوات كامتداد للأنهر التي تُغني الزراعة وتنميها لأن قوة نفوذ الحضارة يكمن في المعطيات ، وأهمها الماء ، وبدونه تفقد الحضارة من محتواها الجزء الكبير إن لم تكن قد فقدت كيانها برمته لأن الماء عنصر الخلق والإبداع الفكري الحضاري ، واستناداً إلى ذلك فأن المرجعية المعرفية التي ترى الماء أصل الوجود الحضاري وقابليته في صهر الفعل الإنساني والطبيعة ضمن نسق واحد أساسه نزعة فلسفية أغنت الفكر العراقي القديم – أن الخليقة تلد من الأصل – كتصور فلسفي علته اندماج الطبيعة والذات الإنسانية (م 27 ص 14،15) ، والماء كمعنى دلالي للحياة ، تزداد به الأرض خصوبة وإنتاجا ً، أكدته الميثولوجيا العراقية القديمة في قوة عناصر استنزال المطر كالفتوة والشباب خصيصتا الإله (تموز) كارتباط نفسي بهذه القوى، وبفعل انصهار الفنون والواقع الفكري توصلت الفنون والآداب إلى كينونتها بتصوير الكهنة وقسوة الحياة عقب الفشل في إنزال المطر سحرياً، فصورت المعاناة مصداقاً لعزوف الفنان الرافديني عن الواقعية إلى التجريد والرمز في تصوير الأشكال الآدمية اختلفت عنها في التصوير الواقعي للحيوانات (م32 ص 2،3) لأن " الفن .. يتسامى فوق مستوى الواقع، والتعبير عن الجمال يقتضي علوه عن الطبيعة والواقع، والجمال هو التجلي المحسوس للفكرة" (م 20 ص 90) بافتراضات مسلْمة أن الفن العراقي تناغم للجمال والبعد الفكري فيه . تسعى الدراسة إلى استكناه نتائج توظيف الفن العراقي القديم للرمز من الناحيتين الفلسفية والتقنية كتطورية جمالية ، واستشفافاً لمقتضيات الفنان العراقي القديم بتفعيل الرمز كمحفز اجتماعي وطقوسي تبوء الرمز مكانة ذات مغزى .
وتحديداً لتعريف الرمز كمصطلح فقد ورد صريحاً في القرآن الكريم في الآية (41) من سورة آل عمران بقوله تعالى ((..آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً …)) تنويه لأمر الخالق إلى زكريا بكف لسانه عن الكلام والنطق ، والتعامل مع الآخرين مكتفياً بالإشارة والإيماء بالشفتين عرفاناً لاستجابة رب العالمين دعاءه أن يرزقه غلاماً (م26 ص 74) ، إلا أنه ورد بألفاظ أخرى متباينة ولصفات أشد تبايناً كالتين والزيتون والفجر والعاديات والشمس والقمر وغيرهما مما أزدان بهم القرآن الكريم ( م13 ص42) ، ويسمى الرمز في كلام العرب (فن اللَحْن) من الفطنة والبديهة والتورية (لحن زيد لعمر) قال له ما يفهمه دون غيره (م 35 ص33) وظهر معنى اللحن في القرآن الكريم في الآية (30) من سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تبارك وتعالى (( .. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..)) ، دلالة لمعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المنافقين أصحاب القلوب المريضة في تلاعبهم بالألفاظ وصرف الكلام عن صيغه المعتادة (م 26 ص571) ، والرمز ورد بمعنى الإشارة والإيماءة بالشفتين والحاجبين (م 17 ص256) ،أو الإيماءة بالحواس والأعضاء لدى الكائنات الحية (م 13 ص 39) وجاءت كلمة الرمز (Symbol ) عبارة عن صورة أو تمثال أو إشارة أو علامة تدل على معنى الرمز ، والرمز فن قائم بذاته يُدّل به على الأشياء المعنوية بدافع التشابه والتماثل فيما بينها وقد تداوله الأقدمين في الأمور العقائدية والأدبية وعُدَّ الصينيون من الأوائل الذين استخدموا الرموز في زمن سابق غير محدد (م 8 ص668) ، والرمز تعبير اصطلاحي يحل محل غيره ويصبح بديلاً عنه كعلاقة اصطلاحية رمزية تستخدم استخداماً متصاعداً لتمثل مجموعة من الأشياء أو نوعاً من أنواع العلامات (م 38 ص289) ، والرمز عند الجماليين ومنهم الفيلسوف الألماني هيغل (1770 – 1831 م) هو أُولى مراحل الفن (م 14 ص255) ، فيرى أن ابتكار الشرق للرمز كان البدايات الفعلية للفن دعاها " الرمزية اللاواعية" وأن للرمز دلالة ما بين المدلول والشكل ، وربط الإبداع الرمزي بالميثولوجيا التي تعد إبداعاً روحياً تنطوي عليه رموز عميقة بالتأصل وأفكاره عامة (م37 ص10،11-20) ، وتراه (سوزان لانكر) بوصفها " أن الفن رمز …" (م 18 ص10) ، أما يونك فالرمز عنده "أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً ولا يمكن أن توضح أكثر من ذلك بأية وسيلة أخرى" ¬(م7 23 ص8) . يبرز الرمز كنظام جديد مطابق لموضوع مستخرج من التشخيصية التي لا تتغير هويتها بتكرار الشكل أو تجديد تصويره (م4 ص23) لأن التشخيصية ظاهرة معتادة تحولت بفعل التغير في الذهنية المتحفزة إلى نظام جديد خفي في الشكل المعبر عن الطبيعة فكان التجريد ذو القيم الجمالية التي تخدم الغرض الفني (م21 ص23) وأن الإشارة والإيماءة والرمز تمثل إحدى طرق الدلالة ولها معنى غير مباشر في الكشف عن هدف ما بأسلوب لفظي وارتباطه مع صفة الخفاء (م13 ص41) ، أما التعريف الشائع للرمز هو تنويه بإشارة مرئية إلى شيء خفي (م7 ص54) ، فهو دلالة خارجية تحتوي على مضمون ينبغي استحضاره وهو غير ملزم أن يكون مطابقاً للمعنى حتى أن الفنان حين يستحضر الصفة باختياره الرمز لا يفترض عليه أن تكون الصفة مطلقة لشيء ما أو محددة به إلا أنها تكون الغالبة فصفة المخادع غالبة على الصفات الأخرى (م37 ص 12،13) ، وأن الرموز شملت العلوم كافة كالرياضيات ، أما في الفنون التشكيلية فقد سميت إحدى اتجاهات الفن التشكيلي الحديث بالرمزية يفترض أساسها التقني والفكري ما يفرزه العقل الباطن عن طريق اللاوعي، والإنسان الرافديني استخدم الرمز كدلالة اجتماعية عقائدية أفرزته منجزات فنية تعبر عن توجهات المجتمع الفكرية ونوازعه تلتقي عندها الطقوس التعبدية والسحرية ليرتقي فيها المنجز بالمضمون على الشكل (م 9 ص30) ، وتوخياً للحماية تعددت آلهة السومريين لتؤول إلى رموز أثرْت الفن بروحانية طافحة بالحياة للواقع ضمن العالم الديني الأوسع لأن الفن الديني يشمل الدنيويات والمقدسات،وأن المقدسات ذات الهيئة الحيوانية لها دلالات رمزية تقارب في تصويرها الطبيعة كما توضح الرمز في المجسمات الحجرية في عصر الوركاء وما تلاها لينبثق ( الشكل 1)
كتعويذة في مجسم فيه ثقبين دائريين في الرأس رمزاً لآلهة العين استخدمت
للأغراض الروحانية والطقوسية ، تعد من التأويلات الشكلية للطبيعة (الواقعية)
نحو تجريدها من خلال قراءة بنية الشكل في المعنى (م 11 ص 128،129) .
أن الفن العراقي القديم بتأكيده على التجريد أمام انحسار الشكل الطبيعي
(اللاشكلية في الفن) ، أدت إلى أن تخبو قيمه في الرمز، لأن العقائد العراقية
القديمة كعلة ميتافيزيقية خارج حدود الإدراك البصري آلت ذهنيته إلى تصوير الآلهة
على ما يرمز لها ولأنه الوجه الأخر للفكر الإنساني فهو زاخر بالرموز التي تمثلت
بتباينها في الشكل والمعنى بفرض اجتماعي ونفسي ووظيفي، والمرأة في المنجزالرافديني يتراقى فيها الرمز ويُعلي منها كقيمة خصبية ، صورت (الآلهة الأم) كرمز ديني يبثه المنجز لشكل امرأة بدينة واضعة يديها على صدرها، مبالغ في حجم ثدييها ووشمت* أجسادها يجسدها شكل الأم والطفل (الشكل 2) فضلاً عن الرموز الخصبية الأخرى الدائرة والمثلث للحيوان والشكل المعيني رمزاً للسمكة والخط المنكسر ثم الشكل المربع للنباتات، وأن اختزال الصورة إلى الشكل المجرد البسيط اتجاه تقني وفلسفي أتبعه الفنان الحديث في رسم الطبيعة (سيزان، ما بعد الانطباعية)، وما الزخارف في النتاجات الفنية إلا تجريدات اعتمدت إلى عناصر منها تضاؤل الشكل الطبيعي وتحقيق الشكل الهندسي تعبيراً لغاية لها بنية اختزالية (م21 ص 41،42،43) .
أما رمزية تشابك الأيدي سمة الفن السومري في عصره الذهبي وما بعده (الشكل 3) كدلالة للصلاة وللعبادة المطولة مفادها صفة الخلود ضالة الإنسان العراقي القديم ، وتدفق الماء من الإناء التي تحمله الأيدي المتشابكة في بعض تماثيل الآلهة كتذكير بمنافع السماء على الأرض (الشكل 4) (م 5 ص41) .














أما القيم الجمالية فأنها كما رافقت الإنسان العراقي منذ صناعاته الأولى للفخاريات وتحسيناته في الشكل والمادة واغنائها بالزخارف والأصباغ للمحافظة عليها (م 22 ص 29). كذلك الرمز قد حظي بالإطار الجمالي الذي فرضته المعطيات عليه ومنها استبدال الصور والأشكال بالرموز والتجريدات عبر أدراك قيمة الفن بابتعاده أن يكون شيئاً مادياً استذكارياً وأصبح تنويراً عقلياً انحسر التشخيص منه ليصبح اختزالاً لا يمت للشكل التصويري أو التشخيصي بأية صلة عينية ¬(م 4 ص 72) وهنا يظهر سبق الفنان العراقي القديم كآلية اشتغلت في (الفن الحديث) الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا أبان ظهور حركة الانطباعيين الفرنسيين في الفن والأدب التي ساندتها النظرية الشكلية* إحدى النظريات النقدية في الفن الحديث إذ جاءت كرد فعل وتحد مباشر لنظرية المحاكاة الجمالية التي ترى الفن مرآة للواقع في محاولة ترديدية غايتها إيضاح الصورة في الشكل والمضمون (م 16 ص253) .
ومنذ أن ظهرت الكتابة في الوركاء تطورت وانتقلت على مر العصور لتؤول في عصر جمدة نصر من التشخيص (الرموز والعلامات) إلى مقاطع ذات منحى صوتي وإشاري على شكل خطوط مسمارية (م 3 ص114) والكتابة منذ نشأتها وسيلة للتدوين اللغوي الذي يحمل معنى دلالياً للغة في دلالتها الشكلية (المقروءة) فظهر الخط كإشارات ورموز يحمل قيماً جمالية كثيرة توائم خصوصيته وكيانه عبر طبيعته الانسيابية والتكرارية فتبرز هويته الجمالية مرتكزة إلى شكله المقترن بجذوره الجمالية والحضارية (م 21 ص77 ،82) ، والرمز كان مستخدماً في البدايات الأولى للكتابة التي بدأت صورياً ما لبثت أن تحولت إلى رموز لأفكار تعبيرية بعيد عن التشخيص
وبالتالي تحول الرمز إلى اصطلاح كتابي أطلق عليه الكتابة الصورية المقطعية وبالتحديد في
الفترات المتأخرة من ظهورها ومعنى الاصطلاحية أنها رمزية متطورة عن سابقتها وصوتية
بمشاركة الصوت البشري مع الرمز، ويظهر أن الكتابة المسمارية تتكون من حروف تشبه
المسامير ( ) قوامه مثلث مقلوب قاعدته في الأعلى يستند على خط مستقيم عمودي ،
والشكل استمده الفنان السومري من الشكل الأنثوي من التقاء الفخذين والعانة يتولد الشكل
أعلاه( يشابه الحرف) ، لذا فأن الكتابة اقترنت بالعطاء (الكتابة ومنطقة الخصب) أنهما يغذيان
الذات الفردية والمجموع بما يميزهما فكراً وعدداً كخصائص أرقى الحضارات كالحضارة العراقية
القديمة (الشكل 5) (م25 ص359) .
جسد العراقيون القدامى الرمز بهيئة صور حركية باتجاهين على وفق صوره الظاهرة في المنجز
كعلاقة الإنسان مع الإله (العروج) وأفضل ما تمثله أسطورة كلكامش بشخصه بينما يكمن الاتجاه الثاني
وفق صورة الإنسان والحيوان في شخصية انكيدو أو ما يسمى بـ(الإشراق) ، ويتجلى في الاتجاهين تكامل موضوعي ذو قيمة جمالية وفلسفية ومثالية * ، لا سيما أن المثالية في الفن العراقي القديم متأتية من التكامل الجمالي في إغناء العلاقة بين الطبيعة والثقافة والعلم والإنسان، وتكون أكثر اتضاحاً في الطرح الميثولوجي عبر التقنية التجريدية التي تتضمن بين طياتها المعالجة التركيبية للأشياء (الشكل الآدمي والحيواني والإله ) وحكاية كلكامش وانكيدو نضوج في الشخصية الأسطورية ذات القيمة الجمالية من خلال الوضع المثالي لعلاقات عناصر الأسطورة فيما بينها(م 21 ص 25،26) ، والسومريون في مراحلهم المبكرة توصلوا إلى مشاهد معقدة كرموز حركية حجرية وفخارية برزت خلالها ممارسات طقوسية وسحرية انبثقت منها المنحوتات الآدمية ذات المغزى الديني أو السحري كالتماثيل المعبودة (الشكل 6) وانبثق (الشكل 7) يجسد تمثالاً
حجرياً لوحش أسطوري آدمي ذو رأس لبوة، وتعاود ظهور الرموز المركبة في
طقوسيات المجتمع الرافديني عبر المنحوتات المجسمة والبارزة بتصويرها الأشكال
الآدمية وارتباطاتها بالطبيعة تحرزاً ورهبة مما يحيطه (م 22 ص 44، 49، 51) ،
وتفرض الميثولوجيا السومرية أن الإنسان صَنعة الآلهة يفنى ، وحياته مرهونة بها
لذا اعتقد أن البطل (الشخص الرمز) أستسلم للأمر، فجاءت معتقداتهم الدينية تؤكد
على تأمين النموذج لما بعد الفناء فانصبت فلسفتهم الحياتية على مبدأ الخلق والبعث
والإخصاب.
كما حصن السومريون أنفسهم مما يحيطهم بفعل التغيرات المناخية فارتبطت
قابلياتهم الذهنية والإرادية بالضد عن عناصر الطبيعة أطرتها طقوسهم التعبدية في
الصلاة، وتواصلاً مع القابليات الذهنية أكدتها الميثولوجبا السومرية على مبدأ الخصب
والنماء التي تعد من أسس البركة والعرفان السومرية وقد تنامت الفلسفة العراقية
القديمة والمعتقدات لتكون في إطار جمالي عبر الفنون كالنحت والفخار والرسم، ينبري
الرمز منها كرد فعل للرهبة يصورها رأس الأسد المرتبط بالنسر( أيمدوكود)* دلالة
على عاصفة المطر الخيرة الملبدة بها سحب السماء السوداء متمثلة بجناحي النسر
المفتوحان على الجانبين (الشكل 8) ، وصور الإله المحتضر في كتاب الغصن الذهبي** تموز يهبط من الجبل عند اصفرار النباتات دلالة لقرب موتها جراء حرارة الصيف جالباً معه الخير والبركة بزواجه من اينانا (عشتار) في الربيع حيث خصوبة الأرض وانتعاش القطعان الحيوانية (م 22 ص 89،90،91،93) .
يفترض المنطق الميثوبي (mythopeic) تمازج الشيء وهويته (شبيه الشيء هو الشيء نفسه) ، فالرجل
كقوة طبيعية يشبه أحد الإلهة ويتلبس هويته ليمثل دور الإله كما تقمص
الملك (دموزي) هوية الإله (دموزي) الذي تزوج (اينانا) فأصبح (دموزي)
آله الخضرة والحشائش فكان الإله (دموزي) يحضر عند حلول الربيع (الشكل 9)
(م 36 ص 236) ، فصورت الآلهة بأوضاع مختلفة منها ما يحمل فأساً يمزق
السحب وإطلاق عواصف المطر، والثور كعنصر تذكير وفحولة تعالق برمزيته
والطبيعة والإنسان المؤله كرمز خصبي ديني (م 5 ص 98) .
إن سيطرة القوة الإلهية الخالقة لدى العراقيين القدماء على عناصر الطبيعة وما ينتج
عنها من ظواهر جعلها ذات كلمة فصل في إصدار الأوامر ، على الإنسان تنفيذها
(م 25 ص 156) ، وهو جوهر الفكر التأملي العراقي القديم في انقياد الإنسان للقوى
الكونية الكبرى يخدمها ويطيعها ويتضرع لها بالصلاة وتقديم القرابين (م 36 ص 237) ،
وأشارت العقائد إلى المعجزات التي تكرم الموتى وتهيأهم للحياة بعد الموت حتى أن الدلائل
قد أبانتها في قلة عدد أضرحة الملوك بالقياس إلى العدد الكبير من الملوك الذين حكموا
بلاد النهرين (م 22 ص 93) ، وتذهب البدايات الأولى للوجود في العقائد العراقية القديمة
إلى امتزاج الماء العذب (أبسو) بالماء الأجاج (تعامت) * ومنه كان الخلق الأول المتمثل
بالإلهة (م 11 ص 77) وإليه يرجع الاعتقاد في أصل معالم الكون الرئيسية وكيفية تأسيس
العالم وفي وصف الكون أشارت القصيدة
" … عندما في الأعالي لم يكن للسماء ذكر
ولم يخطر بالبال اسم لليابسة تحتها ،
عندما لم يكن إلا ابسو ، والدهمــا،
وحمو وتعامت – هي التي ولدتهم جميعاً
يمزجون أمواههم معاً ،
… عندئذ تكون الإلهة فيهم " ( م 36 ص 200 ، 201) .

أن فلسفة الحياة لدى الفنان القديم أطرت رموزه بمعان غنية بتعبيراتها ، فالمعزاة الدائرة والصليب المعقوف المؤلف من شعر النسوة (الشكل10) دلالة ذات معنى في ديمومة الحياة جسدها في اشكال بشرية وحيوانية ضمن حلقة دائرية لا نهاية لها (م 5 ص 92). كما أكد الفنان على
المرأة مشخصاً فيها المناطق الخصبة بعد أن زينت النساء بالقلائد
والأزرار ووشمت الخدود وقد صورت الإلهة على هيئة الأم
(الشكل 11) (م 6 ص 34،35) .
وقد عثر على مجسمات لنساء عاريات بولغ بتجسيم
أعضاء أنوثتها كرمز عقائدي مقدس (الشكل 5)
(م 31 ص21) وما عثر عليه في النصوص القديمة
كشف عن الدلالات العقائدية الدينية بارتباط الدين
والسياسة فصورت الملوك في قبضة الإلهة، والملوك
هم وكلاء الإلهة في الأرض، أما العبادة عند العراقيين مبعثها
الخوف من شرور الحياة، وأن الحياة الهانئة الآمنة تشغل تفكيرهم
فاتجهوا إلى الصلاة وتقديم القرابين لدفع الأذى والمرض وطلب
العيش الآمن أملاً في العصمة من الكوارث كما افرطوا في
الخضوع للكهنة حتى أضحت عقائدهم دنيوية خالصة بعيدة عن
الرؤية الأخروية، فوضعوا أنفسهم وعوائلهم في أمرة الكهنة وكانوا
يتفاخرون بخدمتها (م 11 ص 52-56) .
أن العقائد العراقية القديمة تميزت بالديمومة في وجودها، فالديانات التي اعتقدها ومارس طقوسها العراقيون المتأخرون هي ذات الديانات التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ، وأنها ارتبطت بعلاقة الإلهة فيما بينها خلال علو شأن إله دون غيره تبعاً للنظام السياسي وتبعاً للاستقلالية السياسية فظهر مبدأ التفريد ، كما ظهر مبدأ الشرك والتشبيه الذي ظهر واضحاً في العقائد البابلية ، فالشرك جاء من تعدد الإلهة (Polytheism) (م 28 ص 227) ، أما التشبيه فقد صور الإله كالإنسان في ممارساته الحياتية، له ما للبشر من نوازع وأحاسيس من قوة ومن ضعف وإن للإله قيماً أخلاقية فضلى عجز الإنسان عن إدراك ماهيتها لاسيما أن التشبيه يعد من أوليات المنطق في الميثولوجيا (م 25 ص169) .
إن العبادات العراقية القديمة هي رد فعل للتفسير العقلائي لعملية خلق الإنسان ، فلجأ إلى عبادة الإلهة والانصياع لأوامرها والخوف من عقابها فظهرت المعابد لمزاولة الطقوس العبادية التي تعددت وتباينت من فترة إلى أخرى، كما تعلم العرافة لطرد الشياطين والجن من جسد الإنسان وشفائه منها لأن المرض يعد نوعاً من المس الجنوني فظهر عالم السحر كارتباط الفعل الأرضي بما وراء المنظور العقلي أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر (الباراسايكولوجي)، وتمثل الفعل الأرضي برموز وإشارات متداولة أثناء ممارسة الطقوس العبادية كرفع اليدين ابتهالاً للآلهة واستغفاراً لها من الذنوب كما شخصتها الفنون في المنحوتات والرسوم كممارسة الركوع أمام الآلهة أو ممارسة ذبح وتقديم القرابين (الشكل 12) (م28 ص 256) .
ولقد كان يقين العراقيين القدامى بنفعية الإلهة من خلق الإنسان
الذي تيقن أن الحكم الإلهي جارٍ لا محالة وأن الموت قدر صائر
والخلود للإلهة حسب، إليها ترجع كل الفضائل الأخلاقية ولذا فأن
الإنسان العراقي القديم قد جُبل على فطرته أن يكون أسيراً
لرغبات الآلهة ومتطلباتها وأن حب الإنسان للخير والعدالة ما هو
إلا امتداد لحب الآلهة للخير (م25 ص 191) .
وظهرت تماثيل الأسس السومرية ذات الطابع التجريدي والرمزي
من خلال عناصرها التي عملت منها كالثور المضطجع وحامل السلة
ذات الشكل المستدق في الأسفل وغيرها غايتها جلب الخير والسرور
إلى الأرض بعد أن تُختزن بقوة خفية تدفع الأشرار إلى ما تحت
الأرض وتمنعها من إلحاق الأذى بالبشر (الشكل 13) (م 5 ص292) .
إن التكوين الفسلجي للإنسان بوصفه ذا عقل مفكر حتماً ستولد لديه
الرغبة في التعبير المرتبط بالعقائد وبخاصة أن الفن القديم كان لصيقاً
بالدين ودونه يفقد الإنسان ذاتياً للحياة من أفكاره الملهمة لاسيما أن
الفكر السومري الديني ما هو إلا تأملاً ذاتياً للحياة ، وأن الديانة
السومرية توضح أهمية الفكرة القائمة على الحياة بعد الموت ، كما
يمتلك الملك السومري السلطة الدنيوية حسب، وأن المشاهد المصورة
للآثار السومرية وما تلاها من حقب حضارية تظهر الملك في مواجهة
الإله طلباً للمعونة والحماية (الشكل 12) ، كما سجل الفنان العراقي القديم
الموضوعات ذات التأثير السحري والديني في المنحوتات التي وظفت الشكل
الإنساني حصراً ، جعلها مغزاها موضع المنحوتات التي تعبد (الشكل 6)
(م 11 ص 18،19،22،23) .










أن ارتباط الفن العراقي القديم بالعقائد لم يكن بمعزل عن الحس الجمالي للفنون عامة لذا يرى الباحث استناداً إلى ما ورثناه من مآثر الفن القديم مخالفته رأي (أندريه بارو) بإنكاره اهتمام الفنان العراقي القديم بالحس الجمالي في نتاجاته الإبداعية التي تشمل الرمز كأحد منافذ التقنية الذهنية في الفنون (م5 ص42) " لأن الخبرة الجمالية مظهر لحياة الحضارة ..وهي وسيلة لترقية تطورها …" (م14 ص 547) وأن القيم الجمالية شملت معظم النماذج الفنية الإبداعية عبر عناصر التكوين الجمالي كالتماثل والتناظر والإنشاء المتوازن بتوزيع الكتل وتوظيفها في الموضوعات الدرامية الأسطورية (م21 ص29) وبرزت الخطوط والأشكال الهندسية والتكرار بالخطوط المنحنية والوصول إلى الواقعية في النسب ووشمت بعض وجوه التماثيل النسائية لغاية رمزية وجمالية عن طريق التقنية في العمل كالضغط على الطين وعمل أشكالاً مدورة أو مثلثة ، وتجلى ظهور الطابع الجمالي عبر تنظيم العناصر الجمالية (م29 ص366) واستشرفت الجمالية للصور الميثولوجية في العديد من المنحوتات البارزة. و (الشكل 14) يوضح ختمان أسطوانيان يصوران مشاهد لحيوانات مفترسة وأشكال آدمية خيالية وأنهما يمتازان بجمالية تكوينية بفعل التوازن في الأشكال التي ملأت اللوحين دون أية مساحة فارغة بأسلوب درامي متطور فظهرت الرموز متداخلة مع بعضها دون الإقلال من القيمة الجمالية بتحليل يفوق التصور المعاصر (م22 ص 104،106) رغم جهل الفنان القديم بقواعد المنظور إلا أنه كان يرسم وينحت الأشجار والجبال بتناسق كما في (الشكل 15) (م5 ص29) وكما للخطوط والأشكال دلالات رمزية وجمالية كذلك للألوان دلالات ورموز قد تفوق الخط في وصفها عبر تماسك وبنية الإنسان وانفعالاته ، فالألوان لم تغب عن مشاهدات الإنسان القديم لاحتواء الطبيعة لها كما بالغت الألوان في تأثير مفعولها على حواس الإنسان وانفعالاته الذاتية ولو نسبياً من لون لأخر تبعاً للحالة النفسية وتأثيرها، لذا كان استخدام الإنسان لعدد يسير من الألوان كالأحمر والأخضر والأصفر وفقاً لما يمليه المستوى الذهني والنفسي من دلالات ومعان لهذه الألوان ذات المدلول المعروف سلفاً ، فالأحمر يشير إلى الصور الحياتية المتضادة كالحب والخطر والحياة والموت في حين أن السلامة والأمان لها دلالات لونية يعكسها الأخضر، أما الأصفر فهو نذير الشؤم والغيرة ، والتركيز على هذه الألوان لا يعني ترك بقية الألوان فالأبيض للنقاء والبنفسجي والأزرق للأمل وغيرها (م 33 ص 150،151) ، كما أن مصادر الألوان التي استخدمها الإنسان القديم تتمثل بالزئبق ووهج النار والزرنيخ الأصفر واللازورد وقد استخدمها في تلوين التماثيل وتلوين الكتابة والرسوم الجدارية وتزجيج الرسوم (م 19 ص 59،60) كما مثل السومريون اللون الذهبي رمزاً للإلهة (شمش) كما استخدم البابليون اللون الأحمر بشكل أقل (م 24 ص 275) .
المـصـــادر

1ـ القرآن الكريم .
2ـ الاعسم . د.باسم عبد الأمير . مفهوم الشكل في الخطاب المسرحي . مجلة الفنون القطرية.وزار التعليم العالي والبحث العلمي . العدد 1 . كانون الأول 2001 .
3ـ د. احمد سوسة . حضارة وداي الرافدين بين السومريين والساميين .دار الرشيد للنشر . وزارة الثقافة والأعلام . دار الحرية للطباعة . بغداد 1980 .
4ـ أرنولد هاوزر . الفن والمجتمع عبر التأريخ . ج1 . ترجمة : فؤاد زكريا . المؤسسة العربية للدراسات . ط2 . بيروت 1981 .
5ـ اندريه بارو . سومر فنونها وحضارتها . ترجمة وتعليق : د. عيسى سلمان . سليم طه التكريتي . سلسلة الكتب المترجمة . دار الحرية للطباعة . بغداد . 1980 .
6ـ البدري . هالة . الفنان والمرأة المتحف العراقي . مجلة الإذاعة والتلفزيون . وزارة الأعلام . الدار الوطنية للنشر والتوزيع . بغداد 1978.
7ـ برنارد مايرز . الفنون التشكيلية وكيف نتذوقها . ترجمة : د. سعد المنصور وفهد القاضي . مكتبة النهضة المصرية . القاهرة 1966 .
8ـ البستاني . فؤاد افرام . منجد الطلاب . دار المشرق . بيروت . ط 31 . السنة بلا .
9ـ البياتي . زينب كاظم صالح . الموروث الفني التشكيلي وإنعكاسه في الخزف العراقي المعاصر . رسالة ماجستير غير منشورة . جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة . قسم الفنون التشكيلية اختصاص الفخار . 2001 .
10ـ توماس مونرو . التطور في الفنون وبعض نظريات أخرى في تاريخ الثقافة . ج1 . ترجمة : محمد على أبو دره ، اسكندر جرجس ، عبدالعزيز توفيق جاويش مراجعة احمد نجيب هاشم . الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر . 1971
11ـ د. ثروت عكاشة . الفن العراقي القديم سومر وآشور وبابل . المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة . مطبعة الكتاب . بيروت . السنة بلا .
12ـ آل جنديل . د.نجم عبد حيدر . المثال والمثالية في الفن . المجلة القطرية للفنون . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي .بغداد 2001 .
13ـ الجندي . درويش . الرمزية في الأدب العربي . مكتبة النهضة . مصر 1958 .
14ـ جون ديوي . الفن خبرة . ترجمة : إبراهيم زكريا . مراجعة : د. زكي نجيب محفوظ . دار النهضة العربية . مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر . القاهرة . نيويورك 1963.
15ـ جون . ب . فيكيزي . الرمز والأسطورة. مجموعة مؤلفين . ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا . وزارة الأعلام . سلسلة الكتب المترجمة.دار الحرية للطباعة . بغداد 1973.
16ـ جيروم ستولنتيز . النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية . ترجمة : د. فؤاد زكريا . ط2 . الهيئة المصرية العامة 1981
17ـ الرازي .محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر . مختار الصحاح . دار الكتاب العربي . بيروت 1979 .
18ـ راضي حكيم . فلسفة الفن عند سوزان لانكر . دار الشؤون الثقافية العامة . مطابع دار الشؤون العراقية العامة . بغداد 1986 .
19ـ الربيعي . عبد الجبار حميدي خميس . موجز تاريخ وتقنيات الفنون . ط1 . دار البشير . مطابع الدار . الأردن 1998
20ـ زهير صاحب . الرسوم الجدارية المصرية . دراسة تحليلية المجلة القطرية للفنون . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي . بغداد 2001 .
21ـ آل سعيد. شاكر حسن . الأصول الحضارية والجمالية للخط العربي . دار الشؤون الثقافية العامة . مطابع دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1988 .
22ـ سيتون لويد . فن الشرق الأدنى القديم . ترجمة : محمد درويش . دار المأمون للترجمة والنشر . دار الحرية للطباعة بغداد 1988 .
23ـ د.شاكر عبد الحميد . العملية الإبداعية في فن التصوير . المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب .سلسلة عالم المعرفة 109 . مطابع الرسالة . الكويت 1987 .
24ـ الصراف . عباس . آفاق النقد التشكيلي . دار الرشيد للنشر . دار الحرية للطباعة . بغداد 1979 .
25ـ صموئيل كرايمر . من الواح سومر . ترجمة : طه باقر . مراجعة : د.احمد فخري . مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر .السنة بلا .
26ـ الطباطبائي .العلامة . مختصر تفسير الميزان . أعداد كمال مصطفى شاكر .
27ـ الطعان . د. عبد الرضا . أشكالية تأثير الفكر العراقي القديم في الفكر الأغريقي . دوريات آفاق عربية . العدد 2. السنة 2 . مايس 1985 .
28ـ طه باقر . مقدمة في تاريخ الحضارات . الوجيز في حضارة وادي الرافدين . ط /2 . دار البيان للنشر . بغداد 1973 .
29ـ عادل ناجي . الأختام الأسطوانية في عصر فجر السلالات حضارة العراق . ج4 . تأليف نخبة من الباحثين . دار الحرية للطباعة . بغداد 1985 .
30ـ عاصم عبد الأمير . الموروث الشعبي في الفن العراقي الحديث . آفاق عربية . العدد 1 . كانون 2 . السنة 14 . مطابع دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1989 .
31ـ د.عامر سليمان . أحمد مالك الفتيان . محاضرات في التاريخ القديم . وزارة التعليم العالي والبحث العملي . مطابع جامعة الموصل 1978 .
32ـ فوزي رشيد . تموز في الفن العراقي القديم . مجلة الرواق . وزارة الثقافة والفنون . العدد3 . تموز ، آب . مؤسسة رمزي للطباعة 1978 .
33 ـ ـــــــــــــــــــ . الألوان ودلالاتها . آفاق عربية . العدد 11. ت2 . السنة 16 . 1991 .
34ـ كلود ليفي شتراوس . مقالات في الأناسة . أختارها ونقلها للعربية د. حسن قبيسي . سلسلة الفكر المعاصر . دار التنوير للطباعة والنشر . ط 1 . لبنان 1983 .
35ـ الهلالي . محمد مصطفى . الجفر (الشفرة) والرسائل السرية عند المسلمين . مجلة الفيصل . العدد 123 . السنة 11 أيار دار . الفيصل للطباعة 1987 .
36ـ هنري فرانكفورت وآخرون . ما قبل الفلسفة . الإنسان في مغامراته الفكرية الأولى . ج1 . ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ط 2 . بيروت 1980 .
37ـ هيجل . الفن الرمزي . ترجمة : جورج طرابيشي . دار الطليعة للطباعة والنشر . بيروت . آذار 1979 .
38ـ يوسف خياط . معجم المصطلحات العلمية والفنية . دار لسان العرب .المطبعة العربية 1974 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق