الأربعاء، 2 يونيو 2010

الأصالة في الفن وحتمية الإبداع

تشاغل معظم الكتاب والفنانين والنقاد بموضوعة الأصالة من قبل ، كل حسب توجهه وفهمه للإبداع على فرض أن الإبداع والأصالة في كينونة واحدة ومسار واحد . ويرى الناقد جبرا إبراهيم جبرا اتصال التطور والرقي والأدب والفنون مع الأصالة . وفي اللغة والأدب العربي يراها الناقد كلمة تخطت معناها فشملت العراقة ( من العريق ) الذي ترسخت جذوره في الماضي البعيد المجرد من الأدران التي تشوب السمات المشرقة فيه لأنها تعايشت معه في زمن ومكان معينين ، وفي العمل الفني ارتبطت الأصالة بالإبداع عبر تنظيم العناصر المشتركة والمترابطة في تركيبات جديدة لها رؤية تطابق المؤهلات الذاتية أو تشترك معها لتمثيلها ضمن منفعة ما ، وقد أطلق على هذا المفهوم بالنظرية الترابطية للإبداع ، وعلاقة هذه العناصر فيما بينها سواء تقاربت أو تباعدت تتناسب ونتائج الإبداع ، فمتى تشظت العناصر قبل دخولها في التركيب الجديد وتباعدت عن بعضها كانت نتائج الإبداع أكثر تأثيراً ، في حين ترى نظرية الجشطلت أن الإبداع والأصالة من الجوانب غير المتكاملة فترى الكل قيمة عليا والأجزاء تفحص وتدقق ضمن إطار الكل . الأصالة قيمة مثلى ارتبطت بالمبدع في شتى مجالات الفنون والأدب بعد تماس نتاجاته المعاصرة والإرث التاريخي الحضاري الغني بالمؤهلات الإنسانية ذات التطلع المستقبلي ، وتعكس النتاجات الابداعية فعالية الإرث الحضاري في معالجة قضايا المجتمع المعاصرة وتهذيبها على وفق مقتضيات الحاضر المرتبط بالمستقبل تطلعاً واندماجاً ، فالأصالة إضافة إبداعية واعية للموروث من شأنها تنمية القدرات المادية والروحية لدى المجتمع لاسيما الفنان ، وتتجسد أصالة الفنون بامتداد جذورها عميقاً في بنى الواقع الذي ولد فيه ومنه دون قراءة التاريخ ومقارنته مع الواقع ، بل باستشفاف قيم التاريخ وتوصيلها عبر العمل الفني للمجتمع المعاصر لأن التاريخ تواصل متسلسل الحلقات ، لذا فان الأصالة نظير للإبداع وأساسه كله بسبب عدم انسياقها للشائع من القيم والأفكار وتميزها بانسلاخها من قوقعتها وتقليدها للمألوف ، وكما حظي الإبداع بتعاريف شتى حظيت الأصالة بتلك التعاريف ومنها التعريف الفسلجي للأصالة ( القدرة على الابتكار ) المشتق من الدماغ ومراكز المخ الحسية ، لان الخلق والإبداع متأتيان من العمل الذهني للممارسة الناجمة عن مزاوجة إمكانيات الفرد الاجتماعية والثقافية . وفي الفكر الاجتماعي تعد الأصالة لدى الكاتب والمفكر مرتبطة بأدبيات الموروث ومعطيات الواقع الاجتماعي المعاصر وتكون أساسية في مناهضة الظواهر التي تنافي التقاليد والأعراف ولاتمت للمجتمع الأصلي بأدنى صلة ، لذا فان التواصل الحضاري أمر حتمي في عصر تلاطمت فيه النظريات الغربية ، فالأصالة محصلة لدراسة الموروث والتوجه به نحوها ولا يتأتى هذا إلا بالربط الجدلي مابين الموروث وواقع العصر والقدرة الذاتية المتفردة للفنان المعاصر . وإن الاشتغال في منطقة الأصالة لايعني أن يُدرس الموروث الحضاري بتطرف لأننا نرى إن المتخصصين في تبنيهم للموروث الحضاري هم على طرفي نقيض فمنهم من تمسك به دونما تمييز وبشكل متطرف عنصري أو إقليمي ومنهم الرافض له حينما عده نكوصاً في الفكر بمجرد النظر إلى الماضي ( الوراء ) ومن ثم تقهقر في المجالات الأخرى ، وظهر ما بينهما الجانب الانتقائي الذي تمسك بالموروث استجابة لما يخدم أيدلوجيته وفلسفته وحاجته ، وهي أطراف بمجملها أساءت إلى الموروث أكثر مما قدمت له العون والمساعدة في التعايش مع القدرات الحاضرة لأنها رؤى إما تخبطت بلا علمية بمناداتها في تقصي الموروث الحضاري أو نقيض مدسوس أو هي انتهازية في المنهج والأسلوب ، لذا حالت مابين الموروث وجوانب المعاصرة والأصالة ، وارتباط الأصالة بالمبدع يتأتى من توظيف الموروث وليس تسجيله بأيقونية أو محاكاتية إنما كشكل من خلال إبراز القدرات الملهمة للإنسان المعاصر وإعادة بناء ذاته بوعي جديد لأنها لم تكن بالضد من الإنسان المعاصر والمعاصرة فيما إذا أدرك خزين مجتمعه الثر ووعى متطلبات عصره وما يمكنه من تسخير قدراته في إضافاته للثقافة وقد تأتى فهم الفنان للموروث الحضاري على انه ليس استذكارا متواصلا غايته الديمومة في العطاء ، وقد تكون معطيات التواصل الحضاري إلى جانب الروح المتوثبة للفنان من الغور في عمق التاريخ وإدراك قيمته ومحتواه ، لأن الأصالة في الفن تحفيز للقدرات الذهنية والتقنية لدى الفنان وإضفاؤها بأسلوب لصيق مع الموروث وبالتالي يكون العمل الفني قد امتلك صفة الإبداع كما أن سعي الفنان بمواصلة حاضره بماضي مجتمعه المشرق وجهده المضني في التطلع إلى المستقبل لابد منه للوصول إلى حالة النهوض الحي ليرتقي بعمله الفني ، ولعل عبارة الناقد شاكر حسن آل سعيد تشير إلى المعنى " ... إن العمل الفني سياق ديناميكي علينا أن نقرأ ملامحه في المراحل المتقدمة مثلما نقرأه في المراحل المتأخرة.. وهذا النسق وليد النسغ الذي يستبطنه ..." ويتضح ذلك في ناحيتين ، الشخصية الفنية وقيمة الفنان التاريخية وكيفية ارتباطه بما يحيطه، لان الفنان مرتبط على الدوام بين ارثه الذاتي والشخصي وماهيته الإنسانية المرتبطة بموروثه الحضاري الفني إلى جانب الإرث التاريخي لمجتمعه ، فالأصالة ليست تشبثاً فيها بل ما هو مغاير ونابع أصل صاحبه ويعتمد بدأه من ذاته . أي أن أصالة الفنان تعتمد على الخلق الذاتي والتميز والجدة في الرؤية باعتماده الاتصال بالماضي ، لان الفنان الأصيل هو من حوت تجاربه تجارب مجتمعه منذ القدم انطلاقا نحو الآتي لان الأصالة في الفن ما حملت بذرة المستقبل . وتأسيساً على ذلك تعد الأصالة منفذاً توصل المبدع للجديد والمتفرد كما ترتبط أصالة العمل الفني بثوريته في خلق مجتمع له قيم متحررة وهذا ما أشار إليه ( ستيفن ماركوز ) على حقيقة أصالة الفن كونه ثوريا من خلال تحفيز الأسس التي تعتمدها الأيدلوجيات المتبنية للواقع السائد . فالفن رقي يسو بالعقل البشري ، لذا اقتضى أن يكون الفن من الوجهة التاريخية احد المرتكزات الأيدلوجية لخلق مجتمع متعقل ذي عدالة في التعبير عن الحقائق الكبيرة والأخلاق والتقدم هو بذلك مرتكز للتحرر الاجتماعي والسياسي . إن الأصالة في الفن حصراً تكمن في نوع النتاج الفني وليس في كمه لأنها إضافة جديدة للموروث وان محاولة تشخيص النتاج الفني لاسيما التشكيلي العراقي وإخضاعه إلى عملية الفرز للحيلولة دون الخلط الزائف أو الساذج من النتاج المبدع الذي رافق الكم الهائل من الأعمال التشكيلية العراقية المعاصرة ، حتى إن وقوف النقاد والمنظرين التشكيليين في خنادق فكرية متعددة إزاء عرض النتاجات إلى الجمهور مابين إيكال المهمة إلى الجمهور في عملية الفرز والتشخيص وبين تكفل اللجان المتخصصة من تشخيص الأعمال الجيدة قبل عرضها ، وبين هذا وذاك فان الأصالة في الفن التشكيلي العراقي المعاصر لها أوجه متعددة منها أن الفنان خلال خلقه لما هو أصيل فانه يستمد خصائص الماضي المشرق ما يحفزه على تطوير حياة المجتمع عبر اللوحة أو العمل النحتي أو الخزفي واغناء رؤاه المستقبلية ومشاركته في عملية التخطيط ومنها ما ارتبط بالثورة وبالتغيير والتفاعل الإنساني من الإرث الحضاري الفني الذاتي ، وما نصب الحرية للراحل جواد سليم إلا رافد تفرع من هذا المصب الذي وعاه الفنان في فترات سبقت جيله من الفنانين في جماعة بغداد للفن الحديث وغيرهم ممن عاصروه لخلق نتاجات لها شكل ومضمون إنساني حضاري بعيد عن الحس الإقليمي الضيق ، وماذا كانت جورنيكا بيكاسو 1937 ثورة إنسانية عالمية فان ( نصب حرية ) جواد سليم لم يكن أقل شاناً من هذا النهج من أمانة نقل الموروث الإنساني عموماً وموروث شعبه بصورة خاصة ويصدق طرح جبرا إبراهيم جبرا في تحديده العمل الفني الأصيل أن " يحمل العمل غذاء الأنساب.. على نحو ما يتصل بأبعد وأعمق الأصول التي عرفتها التجربة الإنسانية .. وان يحمل العمل الإبداعي بين تضاعيفه بذرة المستقبل " . إن تحقيق كل عمل فني جمالي ينتمي إلى الموروث لابد لمبدعه من استيعاب الخصائص الجمالية والرمزية والفكرية لحضارته بحيث يحتل الموروث بالنسبة للمبدع المنهل الجوهري المتجذر لان التوحد مع العمل الفني ناتج طبيعي من صدق التعبير والإحساس بالنتاج ( الأصالة في العمل الفني ) وما على الفنان الأصيل الذي يمتلك رؤية وقيمة وتصوراً للواقع إلا أن يرتقي بالمتلقي احساساً ووجداناً . وهذا الحس التعبيري للفنان التشكيلي هو إبداع فني مؤثر ، لان الرؤية الحضارية للفنان المبدع تدخل في بنية العمل الفني حين يعبر العمل عن العودة إلى فطرة الماضي وهو في فكره ورؤياه الجمالية يجعل من العودة إلى الفطرة والينابيع الأولى من مهام العمل الفني الأساسية .





نُشر في جريدة المنارة الصادرة في البصرة في العدد / 20 / تشرين أول 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق