الأربعاء، 2 يونيو 2010

الفن بين مفهومي التشكيل والحرفة الشعبية (دراسة في عناصر التكوين )

ملخص البحث
إن الفنون البصرية بوصفها فنوناً متشاكلة بفعل الجهد الإنساني وامكانية تفعيلة على وفق ضرورات الوعي الذاتي المرتبط بالمجموع كتفاعل سليقي تفرضه البنية السيكولوجية والسوسيولوجية للمجتمع لاسيما أن تشاكل الفنون واتصالها فيما بينها يولد بالضرورة قيماً إبداعية وانساقاً جمالية تشي بها خبرات متراكمة ولدتها ظروف التنامي المعرفي والحاجة للجديد والتصور الفرداني كتوجه إبداعي. من هنا يتولد من تلك القيم الإبداعية والأنساق الجمالية انحياز الإبداع حيال التشكيل دون الحرفة (الصنعة) مع تعالقهما المباشر بمفردات تكوينية متماثلة (عناصر البناء الجمالي). فيتولد من هذا التعالق اللبس ما بين المفهومين (التشكيل والحرفة الشعبية) و الى أيهما يندفع الفن. لهذا تحقق البحث لتمييز المفهومين ضمن آلية تضمنت فصول أربعة. الأول (الإطار العام للبحث) وتطرق الى مشكلة البحث والحاجة إليه واهداف البحث، ثم الفصل الثاني ( الإطار النظري) وتضمن مباحث ثلاث الأول يستعرض الفن التشكيلي، البدايات والأسس الجمالية لتكوين العمل الفني وكيفية تنظيم عناصره جمالياً ثم التطرق الى القيم الجمالية للعمل الفني، بينما يستعرض المبحث الثاني مفهوم الحرفة من خلال المعطيات واتصالها بالحاجة والجمالية، فضلاً عن العناصر المكونة للعمل الحرفي. أما المبحث الثالث فقد ناقش مفهوم الإبداع بين التشكيل والحرفة. أما الفصل الثالث (إجراءات البحث) فتضمن اختيار المنهج المناسب وأداة البحث ومجتمع وعينة البحث ومن ثم تحليل العينات البالغة (5) عينات موزعة ما بين الرسم والنحت والخزف. أما الفصل الرابع فقد خلص الباحث الى النتائج والاستنتاجات الآتية:-

1ـ يرتبط مفهوما التشكيل والحرفة الشعبية بنماذج متباينة من المجتمع، لاسباب أهمها ارتباط المنفعة المادية والحرف الشعبية دون التشكيل.
2ـ يتضاد المفهومان على وفق المحورين الأساسيين (الحرفية في الفن) و(الفن في الحرفة).
3ـ يتباين توظيف العناصر البنائية للعمل الفني من العمل الحرفي.
4ـ لا يشترط إناطة الإبداع بالعمل المنظم جمالياً بل بعملية التجريب والجدة في شحذ قابلية المخيلة.
5ـ إن قوة تأثير العمل الفني تكمن في تأمله وجدانياً ونفسياً على غيرها في العمل الحرفي.
6ـ الحرفة هي الصنعة المتناقلة من الآباء الى الأبناء وتكون خالية من الإبداع الفني.


الفصل الأول
الإطار العام للبحث

مشكلة البحث والحاجة إليه :-
على وفق تقسيمات الفنون :جميلة (تشكيل ، مسرح ، سينما)، وتطبيقية حرفية يتولد مفهومان متوافقان فيما يتعلق بالرؤية البصرية الشكلية والتكوينية هما(الحرفة والتشكيل ) يوصف من خلالهما الإنجاز "بأنه نتاج أنساني يملك شكلاً ونظاماً معيناً ويقوم بإيصال التجربة الإنسانية. وانه يتأثر بالتحكم الحاذق في المواد المستخدمة في بنائه من اجل إبراز الأفكار الشكلية والمعبرة فيشمل هذا التعريف العمل المنجز فنيا كان أم حرفياً (م1) ، توافق يتعذر توصيف التباين ما بينهما, فتطلق جزافاً لفظة فنان وصفا للحرفي ( الصانع)الذي يرقى بإمكانياته وذاته كفنان بفعل الإتقان الذي يفوق الفنان المتمرس اوالأكاديمي تعززها رؤية المجتمع، كما يعززها متذوقو الفنون بينما تكون رؤية الفنان (رسام أو نحات أو خراف ) مغايرة عند مشاهدة نتاج الحرفي (ممتهن الصنعة) (النجار والحداد وصانع الفخار والنساج).
ولغرض المقارنة الدقيقة ما بين الحرفة الشعبية والتشكيل يفضي الباحث الى تمييز اللبس ما بين المفهومين من خلال التطرق الى محورين هامين هما (الحرفية في الفن ) و( الفن في الحرفة ) يتعلق المحور الأول بالفنان الذي يجرد العمل الفني من قيمته الخلاقة، أما الآخر فهو لصيق بالحرفي الصانع الذي يضفي القيمة الجمالية والابتكارية على مصنوعاته المتقنة . وما يراه الباحث لا يكون على هذه الشاكلة دوما لان النتاجات لا تنتمي الى حقل


الفن ( كإبداع ) مـــا لم تكن ذات عناصر يتضمنها العمل الفني التشكيلي من تقنية في عمل ومضمون وشكل في موضوع وإدراك فنان ووعي يشي بقابليته في الخلق والإبداع تؤطرها بمجملها عناصر تكوينية جمالية. وبخلافه فان النتاجات لا تعدو أن تكون صنعة لها شكل ومضمون تفقد قيمتها الفنية حال الانتفاع بها وظيفياً. وكهدف يسعى البحث من تقصيه تتكشف المشكلة التي تعرض لها الباحث فأوجزها بالتساؤلات الآتية:-
1-ما هي القيم الواجب اتباعها للتمييز ما بين المفهومين؟
2- متى يتداخل المفهومان في النتاج المنجز ؟
3- على أيهما يقتصر الإبداع الفني ؟

أهداف البحث :-
تتجسد أهداف البحث في تفسير وتحليل المفهومين عبر الكشف عما يأتي :-
1)-دراسة العناصر التكوينية وكيفية تنظيمها جماليا .
2)-كيفية توصيف العمل المبدع وتمييزه عمن سواه وعن العمل الحرفي .
3)-تحليل الأعمال الفنية ضمن الحدود كعينة بحث على وفق العناصر التكوينية


الفصل الثاني
الإطار النظري

المبحث الأول :
الفن التشكيلي .البدايات والأسس الجمالية
إن الرسم ، تصرف اهتدى أليه الإنسان بهدف تصوره الباحثون والمنقبون الاثاريون يعود الى أسباب نفسية ، فالخطوط والألوان البدائية والحزوز التي يضعها الإنسان القديم على جدران الكهوف تمثل إحدى الحوافز التي توهمه بالسيطرة على الحيوانات المفترسة والطبيعة. والرسم ببدائيته داخل الكهوف بعد نضجاً في ذهنية الإنسان تفوق ما اهتدى إليه في صناعته الآلات الحجرية والعظمية والفخارية لان الرسم لم يكن حاجة لها علاقة بديمومة الحياة على غيرها في صناعة النبال والسكاكين والأواني الفخارية لأنها حاجات ضرورة تلزم تواجدها ، وعلى وفق تطويع المادة قسمت الفنون التشكيلية الى أقسام ثلاثة هي الرسم والنحت والفخار ما تلبث ان تتشعب الى تقسيمات أخرى يتعذر حصرها في الوقت الحالي، وقد اهتدى إليها الفنان على مر العصور وفقاً لتطور المجتمع والفنان بدوره يهتدي الى استخلاص روافد تشكيلية جديدة من تلاقح تلك التقسيمات، ومن تجاربه المتكررة

وإنها تشترك جميعاً بثوابت تكوينية لا يمكن إغفالها وتجاوزها، أطلق عليها العوامل التكوينية للعمل الفني وأنها متى ما انتظمت وتآلفت وصولاً لوحدة بنائية، تولد تعبيراً فنياً جمالياً (م2)، والفنون التشكيلية بتنوعاتها تتضمن قيماً جمالية يفترضه التكوين الفني الذي يثري المنجز جمالياً، لان العمل الفني يتأسس في تنظيمه الى أسس بنائية كالشكل والتوازن والحركة والهارموني والوحدة، وإنها متى ما اتصلت وتآلفت في علاقتها تعطي إيقاعاً جمالياً لان "علاقة تلك العناصر مع بعضها وما تشتمل عليه من إيقاع هي التي تعطي العمل صفة الجمال " (م3) .لذا فان العناصر التشكيلية هي العناصر المفضية الى هيكلية بصرية تعبيرية على وفق تنوعات الفنون التشكيلية، كما تعد عناصر التكوين في العمل التشكيلي أساسية في نضج العمل، وبها يتكامل الجانب الجمالي، وقد رافقت الفنون البصرية منذ وجودها، وبها تتباين الفنون التشكيلية من مجتمع لاخر ومن مرحلة لأخرى . وبها يتأسس العمل الفني كوسائل مساعدة في الوصول الى تكامله، واختيار تلك العناصر يتوقف على الموضوع والمادة والشكل وكيفية صهرها في تنظيم ما بغية مشاركة المتلقي مع المنجز الفني واستجابته ، وبالضرورة فان تلك العناصر تنتظم على وفق عناصر تكوينية أخرى من هنا حدد (هربرت ريد) خمسة مضامين رئيسة في الفن التصويري هي "إيقاع الخطوط وتكثيف الأشكال والفراغ والأضواء والظلال والألوان "(م4) ،يشاطره معظم النقاد التشكيليين والفنانين. بيد انهم حددوها بشكل آخر وبتقسيمات أخرى تقترب منها، فحددوا العناصر التشكيلية في الفنون التصويرية (ذي البعدين والثلاثة أبعاد )كالرسم والنحت والفخار من خط ولون وشكل وفضاء ونسيج ومادة، إذ لا يمكن فصل هذه العناصر في أي عمل فني حتى يتعذر على المشاهد إدراك ماهيتها وكيفية تمازجها وهي ذات قابلية في زيادة التجربة الجمالية (م5) حينما تنتظم في العمل الفني بوصفها وسائلاً تعين الفنان التشكيلي، وبهدف الإحاطة ببنية التكوين لابد من دراسة العناصر التكوينية وعلاقتها فيما بينها كي يتسنى لنا تحليل أي عمل فني من خلال ما يبثه التنظيم الجمالي لتلك العناصر وهي كما يأتي:-

1-الخط LINE
وهو العنصر الأساس في الفنون التشكيلية كافة ومن الوسائل المهمة في التعبير بأيسر السبل وبأي مادة تتحرك على سطح مستو، وتتمايز قيمه التعبيرية وفقا إلى اتجاهاته ومرونته وسمكه وتنوعه في شكله ومادتهويمكن تجسيده عن طريق الحزوز بأية مادة على سطح ما أو عن طريق اللون، ويتضح الخط في الفن ذي البعدين اكثر من وجوده في الشكل ذي الثلاثة أبعاد حتى أهملت دراسته في النحت المدور بينما هو يمثل جزءاً


من عنصر الشكل ، وتتحدد قيمه التخطيطية عند حافة الشكل
الحادة(م6) . فجسده الفنان خالد الرحال في منحوتة ( البعد الرابع) (عينة 1)مضموناً بفعل التراتب في الظلال المتولدة من الشكل الأصلي لتكشف عن منظور ايهامي (بعد رابع ) يعد افتراضاً فلسفياً رمزياً، ليس له وظيفة واقعية للمنظور مما يجسد الخط شكلاً جلياً في العمل النحتي أو الخزفي المدور .كما تظهر قيمته في ( السجين السياسي المجهول ) (عينة 2) يحدد الفنان من خلاله الفضاء تعبيراً حقيقياً للمضمون المتوخى بينما ظهرت اختزالية في( بقايا مناضل) (عينة 3) تعبيراً دقيقاً لماهيته في تجسيد المعنى.

2- اللون : COLOUR
عنصر بنائي له أهمية في فن التصوير لانه" مصدر الثراء في اعظم الأعمال الفنية المبدعة" (م7) من خلاله يمكن تجسيد الشكل والموضوع ، إذ يصف (بول كليه) نفسه واللون شيء واحد (م8)، كما ان الشكل يكتمل باكتمال ثراء اللون، وقد مر اللون وكيفية استخدامه في العمل الفني بمراحل تاريخية هامة حددت بموجبها الفترة والاتجاه التنظيري والتقني للمدرسة يتمايز اللون في المرحلة والمدرسة التشكيلية. ومنه يمكن تقسيم الكيفية في توظيف اللون كفلسفة وتقنية الى مرحلتين الأولى ما قبل الانطباعية والثانية ما بعد الانطباعية على وفق اكتشافات نيوتن العلمية من تحليل أشعة الشمس ومعرفة الألوان الأساسية ومتمماتها في قرص نيوتن اللوني .
واللون عنصر أساسي في الرسم والخزف بينما هو اقل شانا في النحت لاسيما إن لون المادة المستخدمة في النحت (جبس أو برونز أو رخام) ذات مدلول نفسي ووظيفي له قيمه مؤثرة بالضرورة على مضمون العمل الفني .وقد ادخل بعض النحاتين المعاصرين قيما لونية خارجة عن كينونة المادة المستخدمة في العمل النحتي، وهي تجارب ليست كبيرة في عددها، ويعد الفنان إسماعيل فتاح الترك الأكثر تجريباً للون في العمل النحتي الجبسي. كما إن للون قابلية اختزالية تتجه حيال التجريد لاسيما في الأعمال التي ترتكز الى الألوان المنسجمة ( الهارموني) والأعمال أحادية اللون ( مونوكروم) وقد جسد هذه التقنية الفنان فائق حسن في عمله (بقايا مناضل ) (عينة 3). كما جسد لون المادة المستخدمة في العمل النحتي ( الخشب الأحمر) بعداً جماليا ًووظيفياً بافتراض الفنان الليلة المبهجة (ليلة الزفاف ) في عمل الرحال ( البعد الرابع ) (عينة 1). أو (الفدائي) (عينة 5) للخزاف سعد شاكر.

3-الشكل: Form
هو عنصر تشكيلي مهم شغل الجماليون والمفكرون حول كيفية الإفصاح عنه فظهرت التعاريف الكثيرة حوله منذ وجود الفلاسفة


الإغريق (أفلاطون وار سطو ) حتى ألان، فوصف أفلاطون بان الشكل يخلق في المادة أجساماً مختلفة وحدده أرسطو بوصفه كامن في الشيء ذاته لا كما في الطبيعة بينما (كانت) يعد الشكل هو العنصر الأساس لبعث الجمال في العمل الفني (م9)، ويفصح جيروم عن الوظائف الجمالية للشكل بأنه يقوم إدراك المشاهد ويرتب عناصر العمل الفني لينبثق منه تنظيماً جمالياً ذو قيماً جمالية كاملة . بمعنى أن للشكل وظائف خارجة عن كينونة العمل الفني وأخرى داخله في محتواه يراها جيروم إنها تشترك مع بعضها في توليد عمل فني له تنظيم جمالي كامل (م10) أما سوزان لانكر فترى الفن صورة أو شكل ، وغرض الفن إبداع هذه الأشكال أو الصور، وان الشكل أساسي في التعبير عن أية فكرة أو مضمون (م11) وإزاء ذلك فان هذه الآراء وغيرها تتفق في أساس الشكل الجوهري من وجوده في العمل الفني انه يغني القابلية الجمالية لدى المتلقي عندما يبث فيه الشعور بالجمال عبر تفسير وتحليل الظواهر لان"للشكل مدى كبيراً في تفسير الظواهر فلسفياً وجمالياً "للشكل طاقة تأثيرية لا يستهان بها في التعبير عن المحمولات الفلسفية والجمالية" (م12). وتتضح قيمة الشكل في عمل فائق حسن (بقايا مناضل) من خلال اختزال الفنان للسطح التصويري متجها حيال الترميز أو التجريد مكتفياً بقميص محترق وخطوط بسيطة( أسلاك شائكة ) ليكشف العمل عن نظام تجانس فيه الواقع والايقونية والاختزال والتجريد تدعمه القابلية الأكاديمية للفنان. بينما يكون للشكل معنى وظيفي وفلسفي من خلال تحوير الصورة الطبيعية الايقونية وتأويلها الى كتل متضخمة تشغل السطح التصويري، وقد جسدها الفنان فيصل لعيبي في (المناضلون ينهضون ) (عينة 4) أو كتلة بيضوية تمثل شكلاً لوجه آدمي جسد الشكل في المضمون برمته (عينة 5).

4-الفضاء Space
تنتظم العناصر التكوينية في العمل الفني ضمن مجال يتح للفنان الاشتغال بحرية يتجسد في السطح المستوي ذي البعدين (الرسم) والمجال الذي يحيط الشكل ذي الثلاثة أبعاد (نحت , خزف ) . وعنصر الفضاء , لأهميته يذكر(ارنهايم)"إن أي فراغ هو دعوة للابتكار" (م13 )، ويظهر اللبس ما بين الفضاء والفراغ لاسيما في السطح المستوي أو لوحة الرسم، لان الإحساس بالفضاء يتضح اكثر بوجود الشكل النحتي المدور ، وانه متى ما كان تكوين الشكل فيه اكثر تعقيداً بالضرورة يكون تأثيره أقوى من تأثير الفضاء بسبب التداخل ما بينهما، مما يتعذر الفصل ما بين الشكل والفضاء كوحدات متفردة (م14)، كما يتجسد الفضاء عند اقترانه بالحركة الإيهامية في بعض جوانب تقنيات النحت الغير تقليدية بقصد تحرك المتلقي ضمن فضاء العمل وضمن خطوطه المرسومة في الفضاء المحدد , وقد جسدها


بيكاسو في عمله (أقفاص في الفضاء ) وجياكومتي في عمله (القصر في الساعة الرابعة صباحا) وجواد سليم في عمله (السجين السياسي المجهول)(عينة2) (م15).

5-النسيج TEXTURE
هو عنصر تشكيلي مؤثر بفاعليته في الفن ذي الثلاثة أبعاد (نحت،خزف)ولا يغيب تأثيره في الرسم، ويمكن السيطرة عليه ليكون العمل الفني ذا فاعلية عبر تقنيات الفنان المختلفة لنوع مادة النسيج (م16)، فنسيج المادة المصقولة تجسد شفافية المشهد وقدسيته في المجتمع العربي المسلم (البعد الرابع) (عينة 1) أو الفدائي (عينة 5).
بينما يعزز نسيج المنجز (بقايا مناضل) (عينة 3) الصورة الدرامية للمشهد المأساوي على وفق رؤية واقعية وتقنية أكاديمية عالية في الخط واللون والإنشاء ليكون تعبيراً اكثر مصداقاً ، إذ لجأ الفنان الى تكثيف العجينة في أماكن يفترض وجودها دعما"
للمضمون بينما أحال بعض مساحات السطح التصويري الى تقنية التقليل من العجينة أو تهميشها مكتفياً باللون في ابسط حالاته كما في اللون الرمادي في خلفية العمل Back ground والأرضية مما يسهل رؤية مسامات قماشة اللوحة للمتلقي.

القيم الجمالية

من خلال استعراض عناصر تكوين العمل التشكيلي التي هي وحدات بنائية تعبيرية ومن خلال القيم الجمالية كمحور تتأسس عليه العملية الإبداعية في الفن، فأن العلاقات ما بين العناصر ليس لها إلا ان تتآلف وتتوحد للبث الجمالي وان الملاحظة والتحليل الدقيق لكل عمل فني تتطلب توصيف كل عنصر وعلاقته بالعناصر الأخرى، فالخط يتوحد موضوعياً بالشكل واللون، ويتوحد اللون بالشكل ونسيج المادة، كما يتوحد الشكل والفضاء ونسيج المادة واللون في بناء العمل التشكيلي، وان طريقة تنظيم هذه العناصر تفرد عملاً من آخر وتميز فناناً عن غيره. لان سعي الفنان للجمال والمضمون مرتبط بكيفية توظيف تلك العناصر في وحدة متناسقة، الوحدة التي تعطي للعمل الفني معناه، وهذه مثالية يهدف لها الفنان عند سوقه المفردة المنتقاة في المعنى الوظيفي والتعبيري والجمالي.فالفنان التشكيلي ينزع إلى اختيار الوحدة الناتجة من أي من العلاقات المتولدة ما بين العناصر سعياً إلى التنظيم الجمالي بوسائل قد لا تكون معتادة وليست ملزمة لخلق عمل فني مبدع . إن العناصر التشكيلية هي عناصر مرئية للمتلقي بينما التنظيم الذي يسعى حياله الفنان خافياً على المتلقي البسيط أو المتذوق لانه غير مرئياً.كما إن الوحدة التي يولدها التنظيم الجمالي التشكيلي ناتجة عن قواعد متعددة منها التكرار في العناصر المتشابهة ضمن العمل الفني الواحد أو من خلال التقابل


وصولاً إلى التوازن في توظيف المفردات على وفق ما يرتئيه الفنان في الشكل واللون والخط كما يتحقق التنظيم الجمالي من خلال الحركة والاستمرارية بوصفها وسائلاً تجسد الوحدة في العمل الفني"لان الهدف الأول للمصور هو تحويل عناصر الشكل والمكان والإيقاع واللون وغيرها من المكونات الى تعبير متماسك ومتناسق يضمن الفنان من خلاله رسالة توضحها مادته" (م17).أن القيم الجمالية تؤطر الفنون برمتها وأنها تضفي الشعور بالمتعة حيال المنجز الفني كما أنها تخضع الى أركان متغايرة يفرضها الوعي الثقافي الذاتي للمتلقي وما هية التأثيرات المحيطة فيه كالبيئة والتاريخ والجغرافية. كما تعد القيم الجمالية من عناصر الفن وأحد مميزاتها، كذلك يمثل تميزها تميزاً في فنون المجتمعات المتباينة لا سيما إنها غير مقننة ولا يمكن الاستدلال بها ضمن ظروف علمية ثابتة لان" الجمال قيمة لا تخضع لمعيار علمي كونه يتعلق بالجانب الوجداني" (م18).
ولعل من مبادئ القيم الجمالية التي ارتكزت إليها الفنون التشكيلية فيما يتعلق بالعلاقات الشكلية وإخضاعها إلى عناصر السيادة والحركة والتناسب والتوازن على وفق ما تدركه حواسنا لتلك العناصر وما تضفي من متعة جمالية يمكن إدراكها تبعاً للوعي الذاتي الجمالي للمتلقي.وارتكازاً الى الوعي وقابليته في التحليل والتعبير من خلال قيم جمالية تكوينية متوازنة ذات استقرار وسيادة لاسيما إن الجمال وقيمه لا يحيد عن فهم تلك العلاقات المدركة.

المبحث الثاني:
الحرفة الشعبية معطيات وحاجة وعناصر تكوين

إن الحرفة في اللغة تعني الصنعة والصناعة أو ما يقوم به الإنسان من جهد عضلي (يدوي) لانتاج شيء ما ينتفع به هو أو غيره، وقد مارسها الإنسان القديم بالفطرة في صناعة أدواته المعيشية من الطين والحجر والخشب والجلود والمعادن وغيرها من الخامات التي تعينه في ديمومة حياته، ولكون هذه الصناعات نشاطات إنسانية متناقلة من جيل إلى أخر كما انتقلت الآداب والفنون الأخرى، فقد عدت من المورثات الشعبية وبفعل المعطيات المتيسرة للإنسان القديم تنامت الحضارة مبكراً لتظهر ملامح النضج الفكري في الاستقرار التي تفرضه الزراعة وتدجين الحيوانات فظهرت الحاجة الى بعض الآلات التي لا يمكن الاستغناء عنها في ظروف المعيشة اليومية كالأواني الفخارية وغيرها.
إن مجتمع العراق القديم تألف من طبقات حرفية توزعت ما بين الفلاحين والحرفيين والفنانين والنجارين وغيرهم الذين طوروا أعمالهم بتوظيف المعطيات وفقاً إلى الحاجة لتنهض منها

الحضارة العراقية وتتطور على مر العصور فتعلموا صناعة المعادن وطرقها وحولوا المعادن الرخيصة الى اثمن وبعض خامات الأحجار إلى أحجار كريمة تشبه اللازورد (م19) . إلا إن الحرف والمصنوعات الناتجة منها لم تكن وليدة الحاجة حصراً بل إن النقوش والرسوم الموجودة على هذه المصنوعات الفخارية والنحاسية والنسيجية وغيرها ارتبطت مادياً وروحياً ما بين المجتمع والبيئة والمواد المعطاة التي لم تكن بعيدة بتأثيرها الوظيفي والدلالي المتوافق جوهرياً مع المعتقدات السحرية والطقوسية مما يؤكد إن المفردات والرموز المستخدمة لها دلالات في الفكر الشعبي حتى أطرت وظيفة المواد الأساسية دلالات سيمولوجية (م20) فضلاً عن ارتباط الحرف الشعبية في العراق القديم بالمعتقدات الدينية فقد اتصلت بالسلطة والأسطورة العراقية القديمة بافتراض إن معظم الصناعات والحرف هي هبة إله الماء والحكمة الى الدنيا بعد ما خلقها (م21).
كما إن ارتباط الحرف الشعبية بالإنسان روحياً ووجدانياً قبل أن يكون مادياً لأنها نتاجات أفرزت رؤى تعبر عن حالة المجتمع بسبل شتى.وقد تكون الحرف وجهاً أخراً لتعريف الفن ذلك "أن نشأة الفن تستمد من روح الصناعات التطبيقية TECHNICS … وان الفن لا يعدو أن يكون ناتجاً عرضياً للصناعات الحرفية" (م22). بمعنى إن مفهوم الفن هو امتداد طبيعي لمفهوم الحرفة من الوجهة الشمولية للفن وانه كمصطلح يشمل الحرف والصناعات اليدوية.
إن الأسس التي تمكن الإنسان من الرقي بذهنية المجتمع هي مؤشرات محفزة للخلق والابتكار وتشكل أرضية رحبة في تشكيل الرؤية المتجددة للحياة ومنها يستجيب المجتمع بذهنيته المتنامية للإنجازات التي يولدها أبناءه لما لها من تأثير نفسي وجمالي، منها تتشكل المقارنة ما بين العمل الحرفي كحاجة ضرورة والعمل الفني التشكيلي بوصفه حواراً انفرد منه بتعريف فلسفي شامل إنه "حوار مرئي" (م23).
إن البنائية التي ارتكز إليها العمل التشكيلي هي ذاتها للنتاج الحرفي الشعبي بتوظيف عناصر (الخط واللون والشكل والمادة والنسيج والفضاء) لانه نتاج يدوي متشكل، بيد إن المقارنة اختلافاً وتشابهاً تكمن في التجسيد الفلسفي للعناصر وتنظيمهاً جمالياً، فالخط يتعامل معه التشكيلي لانه قيمة تعبيرية جمالية ليس لها أي تأثير فلسفي (مضموني) في عمل الصانع الحرفي فالكرسي وقطعة البساط تتضمن الخوط التشكيلية إلا إنها ليست ذات معنى سوى تحديد الأشكال أو رسم الوحدات الهندسية والنباتية والزخرفية فيتمظهر الجمال في قطعة البساط بكليته دون تجزئة يراد بها مضمون فلسفي، أما اللون فهو في تصرف الصانع مادة صبغية تضفي المسحة الجميلة أو الوقائية للنتاج الحرفي، بينما يعد عنصر الشكل الذي افترضه أفلاطون شكلاً


مجرداً أو حقيقياً يمثله بفكرة وصنعة النجار للكرسي لاجل الاستعمال على غيره لدى الفنان عندما يرسمه إذ يطلق عليه بالشكل الحاكي (م24). أما الفضاء والمادة وغيرها من العناصر البنائية فان توظيفها نفعي وغير ذي معنى فلسفي. وما بين الاتجاهين المتناقضين في توصيف الحرفة الشعبية كونها صنعة ذات نفع او تشكيل جمالي بهدف فلسفي يبرز اتجاهاً معتدلاً يرى أن العمل التشكيلي يتعدى البعد الفلسفي ليضم في جنباته المنفعة ليؤول الرأي الى أن الجمال والمنفعة قد يشتركان في منجز تشكيلي يفيض على المتلقي قابلية التساؤل والتأمل عبر استشراف المنجز للعناصر البنائية الجمالية بمحمولاته الفكرية واتصالها بالنفع الوظيفي والمادي.وحيال ذلك تبنت مدرسة(الباوهاوس)* إحدى اتجاهات الفنون التشكيلية المعاصرة توجه مفاده إن الحرفة ذات النفع هي بالضرورة عمل تشكيلي جمالي وفلسفي.


المبحث الثالث:
الإبداع بين التشكيل والحرفة

مثلما كان الفن نضحاً للاعتبارات الفكرية الذاتية كقيم كامنة في جوهر الإنسان العراقي القديم فانه بالضرورة انعكاس لمجمل الظواهر المحيطة البيئية والعقائدية ، فالفن منذ القدم وما يزال الوسيلة الناجعة في السيطرة على الطبيعة وعلى كوامن الإنسان للارتقاء به، وهما عاملان ارتبطا بالإطار الجمالي والفكري بفعل ما يبثه العمل الفني من استفسارات وأجوبة تثير الدافع النفسي والفلسفي للفنان ، بدورها تنتقل هذه الإثارة الى الملتقى حاملاً معه إجابات قد تكون غيرها لدى الفنان ، إلا أنها ستكون مشتركة معه في التحليل الذي حفز الإنسان العراقي القديم الى ابتكار قيم الفن فضلاً عن الصنعة . فالتشكيل والحرفة الشعبية هما نتاج عقل ومهارة لهما عناصر تكوينية متماثلة ( خط و شكل ولون و مادة و فضاء و نسيج ) إلا إن الدقة في توصيف العمل الفني المبدع وتميزه عن العمل الحرفي المتقن تكمن في عنصر الخــــــيال واحاطته التقنية والجمالية بتنفيذ العمل الفني ،وتصوراً قد يشترك عنصر الخيال وتنفيذ الفكرة في العمل الحرفي الشعبي إلا إن الصفة النهائية للعمل الحرفي مخزونة بالكامل في ذهن الصانع (جاهزية النتائج) بينما تغيب الكينونة النهائية للعمل الفني الأصيل عن ذهنية الفنان لان العملية الفنية الإبداعية هي عملية بحث وتجريب واكتشاف فيتحدد الإبداع في العمل الفني والأصـالة عـلى وفـق عملية البحث والتجريب في تنفيذ الفكرة التي تفتقدها الصنعة الحرفية " فبدون تنفيذ الفكرة ليس هناك عمل فني إطلاقاً " (م26).
وتأسيساً على ذلك فان الإبداع مرهون بالخيال وتجسيد الفكرة، ومرهون بعملية البحث والتجريب وهي عنصران يفترض


وجودهما نسبياً في بعض الجوانب الضيقة لبعض الصناعات الحرفية تعززها المهارة التقنية التي قد تكون اكثر نضجاً لدى الصانع الحرفي، منها لدى الفنان أما الجانب الأكثر تميزاً فيكمن في موهبة الفنان إذ يرتقي بذهنيته فوق تصور الصانع الحرفي لذا حدد الإبداع في العمل الفني الجمالي ضمن محورين أحدهما يمثل البعد الذاتي الشخصي للفنان والثاني يتصل بالمجتمع وقابليته على الاستجابة وعلى بعدهما التطوري(م27) . من جانب آخر فان الإبداع يقتضي البحث في اتجاه الأصالة من خلال بحث الفنان عن الجديد وتجاوزه بقدراته (الخيال تدعمه موهبته) الشائع من التعبيرات والأفكار التي في متناول الآخرين (الحرفي يرتكز في نتاجاته إلى الأنظمة والطرق الشائعة ). لذا فالإبداع يستدعي قدرات لها صلات بالعمل والإنجاز والمجتمع وأهمها الأصالة بوصفها إضافة مبدعة إلى روح التراث، والمرونة وقابليتها في التحرر من النمطية، والطلاقة وكيفيتها في إنتاج الأفكار المبدعة، والحساسية من خلال كشف وتذليل القصور في الأشياء والنفاذ في النظر الواعي الحاد، والمواصلة في تفعيل الذهن على التركيز والديمومة (م28).
ومن هنا لابد من العروج الى تحديد ما هية المصطلح الذي اعتمدناه (الحرفية في الفن)* لانه إطار يحدد الكينونة الرتيبة الغير متحركة للفنان والتي تحجم مخيلته ومهارته وتضعها في قالب الأسلوب والأسلوبية كحد فاصل ما بين الفنان الحرفي والمبدع "لذلك تشكل ظاهرة التحول ضرورة لدى الفنان" (م29) لأنها ظاهرة ليس منها إلا الفصل ما بين التوجهين، إذ يتحدد من خلالها توصيف الإبداع كصلة مع الفنان بحثاً وتجريباً في منجزه الفني وقابليته على تطويره وتجاوز المألوف ضمن كينونة المجتمع التراثي والمعاصرة. هذا أولاً أما المصطلح الأخر (الفن في الحرفة) فانه يرتكز إلى هامش من القيم الإبداعية والجمالية التي تؤطر العمل الحرفي الشعبي(البسط الشعبية مثلاً) وما يضمر من قيم جمالية عبر اللون والخط والمفردة المستخدمة (غالباً موروثة) يستأثر بها المتلقي لما تشع من الحبور والبهجة حال الاتصال معها فضلاً عن رؤية الفنان المبدع لها بوصفها عملاً موروثاً يرى فيه عناصراً بنائية هي ذاتها في التشكيل، ولا تختلف عن القابلية التنظيمية الجمالية، وان غابت عن صانعها الوسائط التنظيمية أكاديمياً لان التنظيم عنده يتولد بالسليقة بفعل الخبرة، مما يفرض اقتراب الحرفي الصانع بمهارته من الفن في تجسيد حرفته ، وما بينهما يشير المصطلح الى تمييز البس ما بين المفهومين الصانع وإتقانه لمنجزه وبين الفنان الفطري الذي يرتقي بتجاربه من الفنان المبدع.وعلى ضوء ذلك فان الإبداع إضافة جديدة للأشكال المعتادة المدركة من خلال الحدس والخيال، وتعبير عن الوجدان لذا فان الإبداع يتردد في الاتصال وصفاً للعمل الحرفي الشعبي ويندفع باضطراد نحو التشكيل (م30).
الفصل الثالث
إجراءات البحث
* المنهج المستخدم: اعتمد الباحث المنهج الوصفي كونه يتماشى والبحث.
* أداة الــبحـــث : استخدم الباحث أداة الملاحظة في التحليل .
* مجتمع الــبحــث : حُصر المجتمع بالأعمال التشكيلية التي اعتمدت في تنظيمها الجمالي الى عناصر التكوين وقيم الجمال.
*عينة البحث: اختار الباحث قصدياً عيناته بـ(5) نماذج موزعة ما بين الرسم والنحت والخزف.

أسباب اختيار العينة
أن تؤدي الغرض في توصيف العمل المبدع تشكيلياً أم حرفياً.
1ـ أن يكون العمل مبدعاً وذو قيمة جمالية كما يراه الباحث.
2ـ قد تكون بعض العينات قريبة من إمكانية الحرفي في تنفيذها.
تحليل العينات
عينة (1) ( البعد الرابع )















منجز نحتي نفذه الفنان خالد الرحال عام 1964 من مادة الخشب الملون. يتكون من كتلتين منفصلتين لرجل وامرأة. والمنجز لم يكن نحتاً مدوراً كاملاً، ولغاية وظيفية توخى الفنان أن يكون العمل اقرب للنحت البارز، لاسيما أن الكتلتين يمكن مشاهدتهما من ثلاث جهات، إذ ألغى الفنان الجهة الخلفية مضيفاً بعض الأجزاء لكتلة الرجل والمرأة لتكرارية الجهة المطلوبة للفنان بهيأة خطوط متكررة توحي بالبعد الرابع الذي ألغاه ومنه أطلق تسمية العمل.

كشف الفنان الحالة المقدسة ما بين الرجل والمرأة مجسداً حالة الخصوبة والعطاء في كتلة المرأة المتضخمة في الصدر والبطن والأرداف استذكاراً طبيعياً للمرجعية الفكرية لفن العراق القديم، بينما جسد الرجل نحيفاً أطول من المرأة في حالة انحناءة حيال المرأة كنوع من القوامة في المسؤولية. كما لجأ الى الملمس المصقول مجسداً شفافية المشهد، بحيث تعطي للفضاء الذي يؤطر الكتلتين قابلية التفاعل والانسجام. فلا يمكن تصور وجود كتلة أخرى تقاربهما لاكتمالهما شكلاً ومضموناً. وتأسيساً على ذلك يحق أن يكون العمل إبداعياً لاسيما إن الحرفي الصانع ذو قابلية في تشكيل مادة الخشب. إلا إن عجزه الإبداعي لن يتكامل بنقل صورة حية للعلاقة الحميمة ما بين الرجل والمرأة بكيفية كهذه تمتلك عناصر الجمال.

عينة (2) ( السجين السياسي المجهول )


















عمل نحتي مصغر نفذه الفنان الراحل جواد سليم عام 1953 لمسابقة عالمية. توخى فيه المعاصرة والتجريد مع استخدامه المفردات والرموز الرافدينية كنوع من توجه الفنان الحثيث باستقراء واستنهاض قيم الموروث العراقي القديم في خطابه التشكيلي. يتأسس العمل من أربعة أعمدة غير منتظمة في الطول والشكل (النسيج،والمادة) بقصد تهاوي القضبان أمام السجين المفكر وقد اعتمد الفنان الى التوازن الشكلي في الكتلة مما

يوحي استقرار المنجز وسيادته، وارتكازه الى الخطوط وتكرارها مولداً حركة انسيابية تفصح عن وحدة ديناميكية تضفي الى المنجز قيمة جمالية في تكامل عناصر بنائيته. أما الوظيفة المضمونية فقد جسدها الفنان معنىً عبر اختزالية الأشكال وتجريديتها وتوجهها حيال الرمز. مكتفياً بالخطوط (الأعمدة) لمشاركة المتلقي في فضاء العمل الداخلي وما يحيط العمل بكليته كنوع من الحركة الإيهامية في عمليات نحتية غير معتادة، هذه العمليات التي تميز الفنان إبداعيا عمن سواه ممن له القابلية الصناعية في تشكيل كهذا دون أية قيم معرفية لا بالتشكيل ولا بعناصره البنائية (الحرفي الصانع) فضلاً عن جهلة يقيم تجريدية موروثه وظفها الفنان في منجزه.

عينة (3) ( بقايا مناضل )










منجز تصويري بالألوان الزيتية نفذه الفنان فائق حسن عام 1976 ليمثل موضوعاً سياسياً ضد التمييز العنصري ومناهضته من قبل الإنسان المناضل وهو يقتحم أسوار العدو لإيقاع اشد الضربات فيه. يتأسس المنجز من اختزالية السطح التصويري برمته، فقد ألغى الخلفية Back ground ليحيلها الى مساحتين ضبابيتين، في الأعلى الدخان (نتيجة العمل البطولي للفدائي) والأرضية في الأسفل. كما اختزل الكتلة الرئيسة بقميص ممزق وأسلاك شائكة مولداً من الشكل سيادة في المضمون (القميص المحترق). وارتكازاً إلى العناصر الجمالية المتوخاة في المنجز سعى الفنان الى الهارمونية اللونية، وظيفةً مضمونية حيال الترميز، رغم واقعية المشهد وأكاديمية الألوان المستخدمة. كما وظف الفنان قماشة اللوحة بإظهار النسيج عبر التقليل من العجينة الزيتية في بعض المساحات كنوع من الاختزال في اللون الى جانب الاختزال في الخط وعفويته المدروسة لخلق حالة التوازن والحركة وصولاً لوحدة العمل الفني التي تؤطر العمل جمالياً فـ(بقايا مناضل) تمثل مضموناً عولج بإبداع فضلاً عن وجودها كشاهد عيان ووثيقة تاريخية مهمة.

عينة (4) (المناضلون ينهضون )














عمل تصويري بالألوان الزيتية نفذه الفنان فيصل لعيبي عام 1972 وقدمه للمشاركة في معرض السنتين العربي الأول في بغداد عام 1974 . جسد فيه قيم الإنسان الثوري وتطلعه للخلاص من العبودية بكل أشكالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.يتأسس المنجز من تراكيب شكلية لمجموعة من الشخوص في أوضاع توحي بالصمود والإصرار والأمل. والمنجز يفرض الكثير من التساؤلات والتأويلات لانه يحتمل قراءات عدة ابتداء بالتقنية الأكاديمية كتوظيف لوني احالنا أليه الفنان مروراً بالبث الدلالي والمقاربة الايقونية للصورة الطبيعية، لذا اعتمد البناء الجمالي على نظام توفيقي ما بين الأكاديمية والرمزية، تندرج التعبيرية ما بينهما مستحضراً المرجعية الذاتية والمرجعية التاريخية. فسعى حيال الموروث الحضاري العراقي القديم لا سيما الوجوه السومرية فضلاً عن الأجنحة التي استقدمها الفنان من الثور المجنح الآشوري.

وتتكامل الجمالية المضمونية التي يبثها المنجز بتكامل التكوين كتقنية حاول الفنان من التوليف بينها. مما يولد بالضرورة عملاً إبداعياً أصيلاً، كما لجأ إلى التأثير الكتلي للشخوص في مقاربة للمنحوتات البارزة أو المدورة ليضفي قيمة الشكل الجمالية على السطح التصويري، يعززه مركز السيادة المؤثر في المتلقي، كما يشي المنجز بديناميكية حركية واستمرارية مولدة وحدة في التكوين العام المنجز، أما حالة التوازن فقد سعى أليها الفنان من خلال مساحات الضوء والظل، كما ر يخفى ان العمل مضموناً وتقنية يفترض عجينة لونية كثيفة تولد شعوراً بالتآلف والانحياز للعمل كموضوع حياتي.

إجمالاً فأن (المناضلون ينهضون) يعد عملاً تشكيلياً إبداعياً عسير في تكوينه البنائي والمضموني من إمكانية الحرفي المتمرس.

عينة (5) ( الفدائـي )














عمل خزفي مدور نفذه الخزاف سعد شاكر باعتماده الكتلة موضوعاً ذا دلالات لها علاقة ومفهوم مقدس في الشارع الإنساني (السلام والقتال حتى الشهادة) مستقدماً التراكمات الموروثة في روحية الخزف من الفن العراقي القديم لا سيما الرأس كمحاكاةً ليست ترديدية للوجه العراقي السومري المدور، فضلاً عن التقنية المضمونية التي تناسب موضوعاته، كالخط بخصائصه الجمالية والمضمونية أطر محيط العينين والفتحة المربعة في الأسفل كنوع من التضايف وموضوعة الحزن الآني للشهادة، وقد عزز تساميها باللون الأبيض الذي يغني المنجز بكليته كاشفاً وبقصد مرجعيته التكعيبية للفنون العراقية القديمة في التوافق اللوني الهارموني واحادية اللون ( مونو كروم) الذي أحال المنجز إلى الاختزالية والتجريدية والترميز فضلاً عن النسيج والمادة في إحالتهما المنجز إلى وظيفته المقدسة ليعد المنجز من الروائع الجمالية والإبداعية العسيرة على إمكانية الحرفي الصانع تخطيها بتكامل العمل الفني في عناصره البنائية ومضمونه.

الفصل الرابع
النتائج والاستنتاجات

1ـ يرتبط مفهوما التشكيل والحرفة الشعبية بنماذج متباينة من المجتمع، فالتشكيل ذو صلة والمجتمع تفوق متذوقي التشكيل لاسباب أهمها ارتباط المنفعة المادية (الوظيفية) والحرف الشعبية دون التشكيل.

2ـ يتضاد المفهومان على وفق المحورين الأساسين (الحرفية في الفن، والفن في الحرفة)الأول يصف العمل الفني التشكيلي بامتلاكه المقومات البنائية كما يصف الفنان وعلاقته بالمضمون


والتقنية أما المحور الثاني فهو يصف الحرفة الشعبية بإضفاء الذهنية المتقدة لها وهي ليست ذات قابلية على الخيال وتصف الحرفي الصانع بامتلاكه أدوات الصنعة حسب.
3ـ العمل التشكيلي حصيلة عناصر بنائية داخلة في هيكلية تدعمها اشتراطات الموهبة والخيال وتجسيد الفكرة وصولاً إلى نتائج مبدعة غير مُسلم بها بينما العمل الحرفي له تلك الحصيلة من العناصر التكوينية الداخلة في هيكليته تدعمها المهارة وتجسيد الفكرة وصولاً إلى نتائج مسلم بها. كما إن توظيف تلك العناصر متباين بين التشكيل والحرفة فتوظيف الخط في التشكيل يتصف بأهمية ليست ذات شأن في العمل الحرفي الشعبي واللون كعنصر بنائي تشكيلي ليس منه إلا مادة طلائية أو وقائية في العمل الحرفي.
4ـ العملية الإبداعية في التشكيل لا يشترط إناطتها بالإنجاز الذي يرتكز في تنظيمه إلى القيم والوسائط الجمالية التكوينية حسب,بل هي منوطة بعملية البحث والتجريب والجدية في شحذ قابلية المخيلة لان العمل التشكيلي يعد أصيلاً بوجود حوافز البحث والتجريب بوصفه كينونة متحولة بتحول الذهنية الذاتية للفنان.وبعكسه يكون العمل التشكيلي تنظيماً جمالياً لا يكتنف بطياته هذه الحوافز فيتحول من عمل تشكيلي مبدع إلى عمل تشكيلي حرفي (حرفنه).
5ـ إن قوة تأثير العمل الفني التشكيلي تكمن في تأمله وجدانياً ونفسياً بينما يفقد التأمل معناه في تلقي العمل الحرفي الشعبي لانه خال من المضمون الفكري.
6ـ الحرفة هي الصنعة التي يمارسها الإنسان في فترة من فترات حياته المختلفة يتعلمها عن طريق الممارسة الفطرية عن أبيه أو معلمه (الاسطة) وتكون في اغلب الأحيان خالية من الرؤية الإبداعية التي تميز الفن التشكيلي عنه بصورة عامة لان التشكيل لم يكن انتقالاً متوارثاً إلا ما ندر.

المصادر
1ـ ناثان نوبلر. حوار الرؤية، مدخل الى تذوق الفن والتجربة الجمالية. ترجمة فخري خليل. دار المأمون للترجمة والنشر،ط1 بغداد 1987 ص38.
2ـ د. عبد الهادي محمد علي. التكوين الفني للحباب الفخارية المزخرفة، مجموعة المتحف العراقي، المجلة القطرية للفنون، جامعة بغداد/كلية الفنون الجميلة العدد(1) كانون الأول 2001 ص127.
3ـ د. عبد الهادي محمد علي. المصدر السابق ص129.
4ـ د. شاكر عبد الحميد. العملية الإبداعية في فن التصوير. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة (109) مطابع الرسالة. الكويت 1987 ص14.
5ـ ناثان نوبلر. المصدر السابق ص95.
6ـ ناثان نوبلر. المصدر السابق ص62.
7ـ د. شاكر عبد الحميد. المصدر السابق ص15.

8ـ د. شاكر عبد الحميد. المصدر السابق ص15.
9ـ د. باسم عبد الأمير الاعسم. مفهوم الشكل في الخطاب المسرحي. مجلة الفنون القطرية. جامعة بغداد/ كلية الفنون الجميلة العدد(1) كانون الأول 2001 ص36 ، ص37.
10ـ جيروم ستولنتز. النقد الفني. دراسة جمالية وفلسفية. ترجمة د.فؤاد زكريا. ط2 الهيئة المصرية العامة 1981 ص15.
11ـ راضي حكيم. فلسفة الفن عند سوزان لانكر. دار الشؤون الثقافية العامة. مطابع الدار. بغداد 1986 ص14.
12ـ د. باسم عبد الأمير الاعسم. المصدر السابق. ص49.
13ـ د.شاكر عبد الحميد. المصدر السابق. ص68.
14ـ ناثان نوبلر. المصدر السابق. ص87 ، 88.
15ـ هربرت ريد.النحت الحديث.ترجمة فخري خليل.مراجعة جبرا إبراهيم جبرا.دار المأمون للترجمة والنشر.مطابع الدار.بغداد 1994 ص54.
16ـ ناثان نوبلر. المصدر السابق. ص88.
17ـ د. شاكر عبد الحميد. المصدر السابق. ص14.
18ـ د. عبد الهادي محمد علي. المصدر السابق. ص128.
19ـ ليو اوبنهايمر. بلاد ما بين النهرين. ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق. دار الحرية للطباعة. بغداد 1981 ص79،82،86.
20ـ باسم عبد الحميد حمودي. تنوع التراث، تعددية الإنتاج والتأثير. مجلة التراث الشعبي. دار الشؤون الثقافية. بغداد العدد(1) 2000 ص27،28.
21ـ هاري ساكز. الحرف والصناعات في العراق القديم. ترجمة كاظم سعد الدين مجلة التراث الشعبي. العدد (3) 1998 ص79.
22ـ ارنولد هاوزر. الفن والمجتمع عبر التاريخ.ج1. ترجمة فؤاد زكريا. المؤسسة العربية للدراسات. ط1 بيروت 1981 ص13،14.
23ـ اتش دبليو وانتوني جانسون. الفن من الحلم الى الحقيقة، تأملات في تجربة الخلق الفني. ترجمة عبد اللطيف السعدون. مجلة البحرين الثقافية. العدد (25) السنة السادسة 2000 ص150.
24ـ باسم عبد الامير الاعسم. المصدر السابق. ص36
25ـ عدنان المبارك. الشكل والوظيفة. مجلة فنون عربية. المجلد السابع. السنة الثانية 1982 ص116.
26ـ اتش دبليو وانتوني جانسون. المصدر السابق. ص115.
27ـ د.شاكر عبد الحميد. المصدر السابق. ص16.
28ـ د. شاكر عبد الحميد. المصدر السابق. ص85،86.
29ـ عاصم فرمان صيوان البديري. المتحول في الفن العراقي المعاصر. أطروحة دكتوراه غير منشورة. جامعة بغداد/كلية الفنون الجميلة 1999. ص34.
30ـ راضي حكيم. المصدر السابق. ص10.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق