الأربعاء، 2 يونيو 2010

الفنان ماجد عباس ... مشغل الزبير البكر

مثلما كانت إحدى مهام الفن تتمثل في إرساء قواعد الربط الروحي بين المدركات الحسية وبين نتاثج قد لاتكون قصدية في بناء وتفسير تلك المدركات ، فهو بالضرورة يمثل لغة مشتركة يمكن استطلاعها والاستشراف بها عبر أواصر جدلية تحدد الواقع بوصفه ظواهر مدركة وما تؤول إليه في إعادة بناء وتنظيم تلك الظواهر ، ويخطئ من يتصور أنها عملية يسيرة لاتمر بمراحل غيبية أو مقننة ، وهذا فرض بديهي تجسد في الفنون العراقية القديمة بتمرحلاتها على وفق المرجعيات المتعددة كالدين والسلطة والسحر لينبري فيها المحيط في الشكل والمادة المعطاة إلى رموز ترتكز إلى تلك المرجعيات ، فتمثل برمتها انساقا تتجاوز حدود الواقع لتؤول إلى تراكيب ذات دلالات ، وإنها تتألف فكريا مع دلالاتها في حدود التعبير من خلال تفعيل تلك الدلالات في استشعار المتلقي بمكامن ذهنية مثقلة بالأشكال والرموز المستمدة من الواقع يجسده المنجز الفني لاسيما إن النظم التعبدية والطقوس تدعم تلك الأشكال بل تقودها إلى مرجعياتها الفكرية للربط بين الذات والمحيط كاتجاهين محسوسين وبين ماهو غيبي يفيض منه الشكل في الرموز من اختزالية قيمه المحسوسة ( المادية ) وجنوحها إلى عالم الماورائيات ، وهو انتماء طبيعي وحيوي بين العالمين المعرفي والتأويل، من هنا يكمن هاجس الفن الروحي بنبذه التقليد توخيا قراءة الطبيعة ، إذ يتولد في الفن عامل المشاكسة التي تفرضها علاقة الفنان بما يحيطه فتكشف عن انفعالات وتحديات داخلية في الذات واتصالها مع المحيط وظروفه بكل نوازعه وتناقضاته فيتمثل بذلك الخطاب الفني على أسس استنهاض وتعزيز القيم الجمالية ، من جانب آخر يفترض حصولها في تحليل أي نتاج فني لاسيما التشكيلي منها ما يتصل بالوعي وارتكاز معطياته في التلقي بما يمثله المضمون من استنطاق حقيقي للواقع ، كما تنفرد منها انساقا ووشائجا لتحيل المضمون ضمن دائرة المعرفة التي يغتني بها التحليل ضمن سياقات منطقية معمول بها ، أسوق هذا لغاية استذكر فيها قيم الفنون المترسخة في الذات الإنسانية العراقية علني أتمكن من العوم في دهاليز المجسمات والمشخصات الطينية والخزفية التي يحتويها المشغل البكر للفنان ماجد عباس ( واسط 1944 ) في مدينة الزبير التي تبعد عن مركز مدينة البصرة بحدود 15 كم . والفنان جهد في تشييد هذا الصرح الفني المغمور والبعيد عن الأضواء رغم انه أنجب العديد من الانجازات الفنية منذ أكثر من عقدين من الزمن .
وحال دخول المشغل لامناص تجد نفسك أمام مشغولات فنان يمتلك الخبرة عبر تجاريبه المتعددة ، فهو الحرفي الفنان الذي يزاول الفن بتنوعاته في التشكيل وبعض الفنون الحرفية التطبيقية ، بيد إني آثرت أن اطرح رؤيتي عنه بصفته خزافا .
في احد بحوثي الأكاديمية المنشورة في مجلة فنون البصرة التي تصدرها كلية الفنون الجميلة في جامعة البصرة ( الفن بين مفهومي التشكيل والحرفة الشعبية ) ذكرت أن هناك توا شجا كبيرا بين الفن التشكيلي والحرفة الشعبية فتوصلت إلى مفهومين هما ( الفن في الحرفة ) و( الحرفية في الفن ) البون بينهما يكمن في جاهزية النتائج ، فالحرفي تسبق نتائج منجزه آلية التنفيذ بينما يتعذر استقراء هذه النتائج في العمل التشكيلي الإبداعي ، واعتقد أن مابينهما يظهر الحرفي المبدع عندما يتجاوز بمنجزه الأول وقد يتجاوز برؤيته الثاني ، وفي هذا المجال أجد فيه حيزا مهما لـ ماجد عباس .
وعلى ضوء الفلسفة التجريبية لـ ديوي أن الفنان وعبر تجاريبه الذاتية المحضة لابد من وصوله حالة الإبداع والخبرة من خلال تطويع المادة الخام وفق مايرتئي عله يجد ضالته في استجابة المتلقي على أساس أن المادة وسيلة الاتصال بين الفنان والمتلقي ، فبقي ماجد عباس أمينا بشراكته مع المتلقي عبر تهذيبه المادة الخام ( الطين ) ليلقيها عرضة للتلقي ، ولذلك تعد أعماله مداليل على خبرات متزايدة لتجارب متراكمة ومتنامية اجترح فيها الفنان لنفسه خطا شفيفا من علائق المنجز البصري العراقي وأسس أصالته عندما استنهض الوحدات البصرية العراقية القديمة في سومر وبابل وآشور وموظفا القيمة الهندسية للحرف العربي الكوفي لضرورة تقتضيها القيمة الجمالية والتصميمية لجدارياته .
وأراني وسطا إذ أرى أن الفنان اشتغل في منطقة تخطت الحرفة بعيدا حيال الأكاديمية إلى فترة متأخرة إذا ما علمنا انه زاول التدريس في معهد الفنون الجميلة ثم مشرفا على دورات المعلمين والمدرسين في معهد الإعداد والتدريب ، ولشغفه بتعلم الفنون التشكيلية أكاديميا أنهى دراسة البكالوريوس في الكلية المفتوحة فأصبح توجهه ورؤيته الفنية أكثر نضجا ودراية وربما أكثر إحساسا .
ماجد عباس مغرم بالمنظومة الزخرفية الإسلامية وقيمها الجمالية لاسيما عنصري التكرار والتناظر وإمكانية إلغاء الفراغ بملء معظم المساحات بهذه القيم ، وقد انعكست وتداخلت في تصاميمه الطينية وجدارياته المثبتة في ساحات البصرة .
وإذا كنا نفخر بالنحات العرقي الكبير الراحل منعم فرات بوصفه الامتداد الحقيقي والوريث الشرعي للفنان العراقي القديم لابد لنا أن نضع ماجد عباس في مرتبة لاتقل شأنا من سلفه الراحل ، فهو الامتداد الأمين له مع الفارق أن ماجد عباس يسكن مدينة يكاد الطين ينعدم فيها . الزبير المدينة المحاذية لصحراء العراق الواسعة ، ومع ذلك فقد اغرم الفنان بالمادة الطينية بطريقة تفوق مجايليه فكان ثرا وغزيرا في عطائه الفني وكأنه تيقن أن الطين مادة تبعث الروح والحياة في المجتمع وتعطي للتاريخ قيمة التدوين منذ المعارض المكشوفة للفنان القديم .
هذا المشغل المليء بالفخاريات والمزججات المرتبة كأنها رتبت متحفيا للتلقي ، لم يكن بعيدا عن احتضان بعض المنجزات الفنية في الرسم والنحت على الحجر والخشب كنوع من التجارب المكملة والمؤازرة لرؤية الفنان الجمالية للفن عامة .
الفنان ماجد عباس بقي ولما يزل أمينا لفنه فرفد الحركة التشكيلية بمشاركاته المستمرة فضلا عن ذلك انه رفد الحركة التشكيلية باثنين من أبنائه احدهما تدريسي في كلية الفنون الجميلة قسم النحت والأخرى مدرسة لمادة الرسم في التربية .

مقالات متفرقة

( سنوبل ) في حديقة الانسان
يلجأ السرديون في كتابة سرودهم كالرواية والقصة من التعرض لمفردات المجتمع الحياتية ، وبنائها بشكل سردي يتفق وما يذهب إليه الكاتب ، فيخضعها إلى آليةٍ تصل بغيته باتباع هيكلية عامة للسرد وإغنائه بالذاتية الابداعية ، محاولاً دراسة جوانب الواقع ونقدها وتقويمها من زوايا متعددة قد تفضي إلى حلول أو وثائق تأريخية هامة . لذا فإن للسرود دوراً بارزاً وحساساً في الكشف عن المعالجات الانسانية للمجتمعات عبر تشخيص الخلل أو تقويمه .
كما أن قراءة الرواية أو القصة تفتح آفاق المعرفة بالاطلاع على خصوصيات المجتمعات ومقارنتها مع بعضها .
هذه مقدمة نسوقها لا لتحليل العمل الروائي ، ولا بصدد تحليل ومناقشة رواية كـ( حديقة الحيوان ) للروائي ( جورج أوريل ) ، إنما لمقارنة الصياغة السردية مع النمط السلوكي لتركيبة المجتمع وعلاقته برجال سياسة الدولة .
تتعرض الرواية افتراضاً إلى حياة وسلوكيات مجموعة من الحيوانات داخل غابة ترزح تحت وطأة ظلم الانسان وقهره ، ولنفاذ صبر الحيوانات قررت جميعها الانتفاضة ضد الانسان والتخلص منه وطرده خارج حدود غابتها ، لتباين الجنس وتباين البنية الحياتية بينهما .
وبعد أن استقر رأي الحيوانات على التخلص من الانسان أصدرت قانوناً( دستوراً ) ينظم حياتها في الحقوق والالتزامات والسلوكيات . قانوناً إلزامياً لجميع الحيوانات حتى الخنازير التي تبوأت السلطة الادارية العليا في الغابة باختيار الجميع ، فالخنازير ملزمة باحترام القوانين كبقية الحيوانات ومماثلتها في الهيكلية الحياتية .
كُتب القانون على لائحة علقت في الغابة ، تنص بنوده ( إن ذوات الاربع تنام على الارض فقط ، وتنام مبكراً لتستيقظ مبكراً ، ولا تجلس على المقاعد ، ولا تحتسي الخمر ، وأن يحرم التعامل مع بني البشر ) .
فوجئت الحيوانات في إحدى الليالي بصياح يصدر من حظيرة الخنازير وعند تقصي الامر وجد أن الخنازير تتراقص بنشوة الخمر . توجهت الحيوانات حينها صوب لائحة الدستور فوجدتها محورةً إلى غير ما كانت عليه . فإن ذوات الاربع تنام على الارض ما عدا الخنازير ، وأن تنام مبكراً وتستيقظ مبكراً ما عدا الخنازير ، ولا تجلس على المقاعد ما عدا الخنازير ، ,ان لا تحتسي الخمر ما عدا الخنازير .
وبمرور الايام ألغيت الفقرة التي تحرم التعامل مع الانسان باستئناف الخنازير علاقتها مع الانسان للمتاجرة وتزويدها بالخمور . كما فوجئت الحيوانات أن الخنازير هيأت الكلاب لحراستها أثناء النوم أو الخروج إلى الغابة .
( ولنقل الصورة المقروءة للرواية إلى مرئية حولت فيلماً كارتونياً ، ولشد ما أثارني تجسيد الكلاب لمهمتها في الحراسة ، تجسيدأً حياً يشابه كلاب حراسة الطغاة ) في الترقب والحذر والالتفات إلى جميع الجهات خوفاً على أسيادها الخنازير من حيوانات الغابة .
استمرت تجاوزات الخنازير وكلاب الحراسة للقانون بحال أفقد الحيوانات الضعيفة صبرها ، فاستجمعت ما تبقى من قوتها وانتفضت ضد الخنازير وحرسها. تناثرت من بعدها الخنازير والكلاب هاربةً – ما اشبه هروبها بهروب الطاغية ورفاقه وكلاب حراسته .
أطمح أن تكتمل الرؤية بقراءة الرواية أو مشاهدة الفيلم الكارتوني .
وإذ احاول إلقاء الضوء على الصياغة السردية للرواية ومقارنتها مع النمط السلوكي للمجتمع وعلاقته برجال سياسة الدولة فيما يتعلق بآلية تطبيق الدستور بوصفه قمة الهرم في القوانين الوضعية ، واحترامه إلزام أخلاقي ومبدئي للمجتمع برمته دون أية فوارق علمية أو طبقية أو عقائدية . فلا دستور لدولة يغير بموت رئيسها عطفاً على الابن ليخلفه كي يجيز عمره الصغير لرئاسة الدولة ، ولا دستور لدولة قانونها مطاط بين يدي رئيسها لصلاحياته غير المتناهية .
فالدستور لا يحابي الصغير أو الكبير ، ولا يفرق الاسكافي من الوزير ، لإنه قمة والمجتمع قاعدة ، والخطوط من قمة الهرم متساوية الاطوال إلى القاعدة ، وشعاع قمة الهرم يفيض بالتساوي إلى قاعدته . كما أن الدستور أعمى تجاه الطوائف والاعراق والنَسب والتوجه السياسي ، يراه المستقل قريباً منه كما يراه الليبرالي أو اليساري أو الإسلامي أو المعارض .
هذا هو الدستور بالمفهوم المدني تتحمل صياغته النخب المعتدلة ذوات التخصص والكفاءة ، يشاركها المجتمع في مناقشته والمصادقة عليه فينال شرف المساهمة في صياغته ليتأسس منه أنتماؤه له واحترامه وتقديسه .
وحينما يصادق المجتمع على الدستور وكيفية صياغته بديمقراطية ، فهو بالضرورة يرفض تحويره تحت أية ضغوطات شخصية أو إيديولوجية .
لقد غيرت الخنازير دستور حديقة الحيوان كما تلاعبت خنازير البشر بدستور حديقة الانسان . وإذا كانت نسبة الانتخابات الديمقراطية ( 50 % ) أهلت الخنازير لتعبث في المقدرات والمصائر وتلجأ إلى سياسة الترغيب والترهيب والسياسة الجوفاء ( أنا القوي ذو الهيبة وعليكم احترامي ) فليس لنا معارضة لديمقراطية ( 99,99 % ) التي لاتجيز ترشيح سوى الخنزير سنوبل ( بطل الرواية ).
فكما حديقة الحيوان انتفضت ضد سنوبل وكلابه ، فإن مصير خنازير البشر لن يكون بأفضل حال من سنوبل .







الجهاز الأمني خيار بين سلوكين
ثمة قطيعة مابين المجتمع العراقي الطيب وبين رجال الأمن تعود إلى العقدين الأخيرين وما نتج عنهما من إرتكابات وضغوطات مارسها الجهاز الأمني المتعدد الأسماء والأشكال بحق المجتمع .
جهاز الأمن والأمن الخاص والمخابرات والاستخبارات والحرس الجمهوري وقوات الطوارئ والقوة الضاربة لما يسمى بالجيش الشعبي وأشبال وفتيان وفدائيو صدام وغيرها ، والقائمة تطول حتى تصل إلى الجار البعثي والرفيق الصفيق وهو يُودي بجاره الذي ( يصلي ) إلى المقصلة عبر ورقة بيضاء يلوثها بقذارته .
حلقات تفرط عقدها بين ليلة وضحاها ، لاناصر ولامعين . هرب البطل الأوحد والأسد المغوار وترك عرينه للمحتل ، هربت أقزامه ومن كانت تلوذ به ، هرب الضابط وهرب الجندي والشرطي حتى الدفاع المدني والمرور .كلهم هربوا وقد تركهم الشعب الجريح لمحنتهم يلوذون بعباءات نسائهم السوداء .
قطيعة أدت إلى هروبهم جميعاً تهيكلت بسببها القوى الأمنية الصارمة لخشيتها من رد الفعل الجماهيري تجاه ما اقترفته أياديهم الملوثة بدماء العراقيين .
هربوا مرتين ، الأولى في الانتفاضة الشعبانية المباركة بعد طردهم من الكويت ( منتصرين )، والثانية في الثورة الجماهيرية وقد تركتهم الجماهير المضطَهدة لمصيرهم الأسود في حرب حرية العراق . أراها ثورة جماهيرية لأن الشعب الحر لايرتضي للغرباء بتدنيس أرضه حتى يفنى برمته ، إلا أن الشعب آثر السكوت فتفرج على سقوط الدكتاتور وصنمه بفرحة تشوبها غصة الاحتلال.
وما أن عادت الحياة الطبيعية إلى العراقيين ظهر شرطي المرور بخجل وضعف أمام المجتمع لإحساسه بقسوته التي يستمدها من جبروت السلطة فكان قرين لشرطي البعث وشرطي صدام بعلم أو دونه ، إذ كان سوط المرتزقة على ظهر الشعب المحروم ، مع إن المرور في كل أنحاء العالم يعد سلطة تنظيمية لا حزبية إلا في عراق الدكتاتور ، وواجبات الدفاع المدني حماية المواطن إلا في عراق البعث فقد انزوت هذه الهياكل كما هي جميع مؤسسات التنظيم الحياتي إلى مدارك البعثية في السلوك وإن لم تكن بعثية الإنتماء ، فقد كان سلوكها الشائن تجاه العراقيين وجهاً آخراً من أوجه الطاغية مع تنافر بعضها وسلوكيات البعث المشبوهة فكانت تتعكز في خشيتها من البعثيين الرفاق ( يا لها كلمة يشمئز منها العراقيون ) .
ورغم خجل شرطي المرور من المجتمع وخوف الشرطي المحلي إلا أن المجتمع أستقبل تواجدهم بفرحة أنسته إرتكابات الهياكل الصدامية البغيضة وتغاضت عن بعض مَن كان يمارس دوراً بديلاً عن صدام وأزلامه ، إلا أن السلوك المريب الذي تمارسه الآن بعض عناصر الشرطة أو الحرس الوطني أو غيرها من المسميات الجديدة دون أن تتعض من الماضي القريب وترى ما حل بهذه الهياكل بعد سقوط الصنم ليس إلا غباء مع إن هذه العناصر الجديدة كانت مضطهدة أو تدعي الاضطهاد والحرمان في عهد الطاغية وما نراه من تفشي الرشوة والمحاباة والسرقة والتجاوز على حقوق المجتمع في كل مناحي الحياة يدمي القلب ، تجاوز في الشارع وفي محطة تعبئة الوقود وتجاوز في السير، ومناصرة المعتدي والسارق والتكالب على البسطاء والفقراء وغيرها ، إنها تجاوزات لاحد لها وقد تزايدت عما كانت في السابق . وكأن البلد عرضة للنهب والسلب لمن كان أقوى على فرض إنهم الأقوى . وتناسوا جبروت أزلام الطاغية وما حلَ بهم ، فآثر البعض السلوك الأعوج للمصلحة والأنانية والربح الآني الذي يفقدهم انتماءهم ، وبه يتهاوى وطنهم ، وأذكرهم بقول أثير لمواطن أحس بوطنيته .
" وطن بيه عوجه وحده وما كدرنه عليه من ينعوج كله شلون يتعدل "








إتحاد الطلبة وخيارات المسؤولية
لاريب أن الخراب الذي خلفه العفالقة لايخفى عن أحد ، ولعل أقسى عذابات العراقيين من أولئك القتلة تمثلت في تخريب النفوس ونزع الانتماء للوطن والتربة ، وقد ألقى كل ذلك بظلاله على المستوى العلمي والثقافي والاجتماعي ، كما لايخفى عن أحد أن البعثيين قد أسسوا شبكة أخطبوطية من أجهزة الأمن تغلغلت في نسيج المجتمع وأرهبته ، وإحدى هذه الأذرع الأخطبوطية ( الإتحاد الوطني لطلبة العراق ) ودوره الأسود في حلحلة المستوى العلمي وتهميشه عبر وسائل عدة ، فأعضاء الإتحاد المقبور هم متسيبون وأغبياء حد العظم وناجحون بامتياز !!! .
وقد حُصرت الدراسات العليا بهؤلاء الأغبياء فنالوا الماجستير والدكتوراه ومعظمهم لم يكتب حرفاً واحداً . ولا أظن أساتذة الجامعات غافلين عن هذه الحقيقة المرة .
الأمر الذي أود طرحه غاية في الخطورة والأهمية من خلال ملاحظاتي كتدريسي وسماعي من التدريسيين الآخرين في الجامعة أن ممارسات بعض أعضاء اتحاد الطلبة الجديد لاسيما بعض رؤساء الاتحادات في الكليات يمارسون ذات الممارسات القديمة كالتسيب والغياب وعدم الانضباط وتسخيف الدروس العلمية وممارسة القيادة الغبية للطلبة والتكتل في مناهضة العلم وأساتذته بحجج الاجتماعات والمسؤوليات المزعومة . لذا أدعو اتحاد الطلبة والطلبة المخلصين المؤمنين بقضية بلدهم بعدم التهاون مع هؤلاء . فكما سرق أولئك جهودنا وحقوقنا وامتيازاتنا وأعمارنا سيسرق هؤلاء جهودكم وحقوقكم وامتيازاتكم وأعماركم . وبالنتيجة سيكون اتحاد الطلبة نسخة مشوهة أرادها بعض الأقزام بقصد أو دون قصد أن تخدم ذواتهم المريضة ، لذا يفترض بأعضاء الإتحاد الملتزمين التصدي للباطل الذي يحاول تلويث سمعة إتحادهم ، والوقوف بوجه مَن يحاول سرقة شريحة الطلبة ، ومقاضاة التدريسيين غير الملتزمين بإعطاء الحصة العلمية كما يجب ، وإيصال تسيب التدريسي إن وجد إلى أعلى مستويات المسؤولية . و يفترض بأساتذة الجامعة عدم ممارسة الدور ذاته قبل سقوط الدكتاتورية والرضوخ لأهواء بعض أعضاء الإتحاد الجديد كما كان سابقاً ، وعليهم محاسبة المقصرين منهم إحقاقاً لأقرانهم الطلبة ، فعلى الجميع أن يضعوا نصب أعينهم أن الجامعة ليست ملكاً لأحد ، إنما هي ملك المجتمع برمته جيل بعد جيل ، فالتهاون والرضوخ يعني مشاركة السارق لحقوق الآخرين . فهل ترتضي لنفسك أيها الإتحاد الوليد من رحم القهر والطغيان أن تكون ملاذاً آمناً للمتسيبين والمتسكعين . وهل ترتضي أيها الأستاذ المحترم أن تعود إلى فترة الذل والاستلاب …؟ ؟ ؟ . لا أظن ذلك .

الإبداع في التشكيل العراقي واستنهاض القيم الرافدينية الموروثة

بلاد النهرين ، ارض تنامت عليها القيم الإنسانية بوصفها نتاجات إبداعية في (التشكيل والأدب والأسطورة) أفرزتها البنية الذهنية والمعرفة الذاتية، فضلاً عن الوعي الجمعي للمجتمعات المتعاقبة على هذه الارض، تدعمها المعطيات الرافدة لتتكامل أهميتها بما يثري تلك المعرفة، وان ديمومة التطلع الإنساني كفيلة بتكامل رؤية قيمة المستقبل المعنوية والمادية وربطه جدلياً بجذوره واستنطاق الأثر كذاكرة متجددة باستخلاص العناصر المكنونة. هذه العناصر المتجذرة تمثل موروثاً حضارياً أثرى الفنان ليرتقي بمنجزه التشكيلي عبر العديد من الاستعارات، متجاوزاً عمقه الحضاري وديناميته في الآخذ والعطاء وتطلعه إلى تجارب الآخرين وبالخصوص التجارب الأوربية .
ان الأثر الحضاري وارتباطه والتشكيل العراقي المعاصر، ظاهرة أفرزتها توجهات الفنان المعاصر الواعية في إعادة تنظيم وتركيب نظم العلاقات كرموز موروثة بوصفها قيماً معطاة سلفاً لتمثل له استعارات شكلية وفكرية باشتراطاتها التراكمية الجمالية ليحيلها الى منجز تشكيلي إبداعي. وهي انتباهه واعية وارتباط صميم بالتاريخ دونما تسجيل حرفي بتلك الظاهرة، لا سيما ان ملامح التشكيل العراقي المعاصر اطرتها جملة امور، منها ما يتعلق ببنية الموروث الحضاري وطبيعة الطرح الفكري الذي يمثله على وفق صيغ معاصرة. المعاصرة التي تتأصل حينما يكون ارتباطها بكيفية إيجاد خصائصها في بلورة الموروث برؤية صائبة ذات مردود فكري متلازم وحياة المجتمع وحريته فتصبح المعاصرة إمكانية متفاعلة مع قيم الحاضر، فضلاً عن نهج الفنان العراقي للقيم الفنية العالمية. لذا فان الرؤية الفنية تمثل انعكاساً لطبيعة الموروث واثره، لان ظواهر الفن المتشردة بقيم الموروث الحضاري لها القابلية في إبراز مدى تماسك الفنان المبدع بأصالته. ويتحدد موقفه الفكري ورؤيته بما قدمه من نتاج. وكما ان الإبداع حالة ناتجة من تنشيط العقل (طبيعة الطرح الفكري) الذي أنضجته المخيلة والخبرات المتراكمة لذا فان الأصالة تمثل الجانب الأكثر نضوجاً في العملية الإبداعية يصفها الفنان (بول كليه) كالشجرة " ينهض النسغ من الجذور عالياً داخل الفنان ويجري خلاله وخلال عينيه". إنها إشارة الى كينونة الفنان ضمن فلكين هما الإبداع الذاتي وما يوازيه ويرتكز إليه في تأصيل العملية الجمالية.
ان المنجز الفني الأصيل هو نتاج مزدوج لسيكولوجية الفنان (مشاعره وانفعالاته) وتجاربه المكتسبة في الشخصية. يكون الموروث ناشطاً فيها سواء وعى الفنان ذلك ام لم يعه. لذا فتنشيط الأثر يضفي بجوانب مشرقة الى العمل الفني، بتعاظمه يكون الغور في أعماقه واستنفاذه أصعب. بيد ان الاستزادة في اكتشافه أشد انفتاحاً وأغزر.
ومثلما يكون الموروث أحد مكونات الشخصية المبدعة بعد تواصل كل منهما للآخر أصبحت المواقف والآراء المبدعة (النتاج المبدع) ذات قيمة مؤثرة بالإيجاب في تحليل ماهية الموروث عن وعي ودراية يرتقي بها المبدع لغرض التمييز ما بين الغث من السمين وما بين الميت الساكن من الحي النابض وتبقى عملية وكيفية انتقاء الأجزاء الحية في الموروث عملية ذاتية لا تقل شأناً من عملية توظيفه.
ان النتاجات المبدعة المعاصرة بارتكازها الى الموروث الحضاري بعلمية متحررة من خلال استحضار جوهر شخصية الماضي وإيصاله الى المتلقي بمفهوم معاصر هي إضافات الى روح الموروث، هذا الاستحضار يتوقف عند ثلاثة محاور منها ما كان موفقاً يرتقي صفة الإبداع والأصالة أو مفتعلاً يتعذر عليه كشف الملامح المتميزة في الموروث مما يحجم الظاهرة فتصبح مجرد أسماً ظاهراً أو تجربة ذات كيان هش ارتبطت بإمكانيات قليلة الشأن لم تمتلك أدوات الإبداع. ويعد الفنان الراحل (جواد سليم ) الرائد في تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث من الأوائل الذين زخرت إنجازاتهم التشكيلية بجماليات الموروث الرافديني إذ استقى أعماله من توظيف الرموز والأساطير والقيم الجمالية وإضفاها الى مضامينه ذات البنية الاجتماعية حتى توجت إنجازاته في الرسم والنحت بتأطير الأصالة لها لمراقبته وامتلاكه أدوات تفعيل الموروث القديم (السومري والآشوري والبابلي) تدعمها رؤيته لمتغيرات المجتمع المعاصر (السياسية والاجتماعية والاقتصادية). وقد تجلت جميعها في عمله الخالد نصب العراق الكبير (نصب الحرية) المتكون من أربعة عشر رمزاً كأنها تولدت من طبعة ختم أسطواني على السطح لتكشف عن لافتة خُط عليها عبارات يراد بها تاريخ شعب.
كما عمقت الدراما والقيم الجمالية للنحت السومري أعمال الفنان (محمود صبري) في تكرار الأشكال ذات الطابع النحتي والرليفات الجانية الرؤوس لتفيض أعماله بمضامين واقعية واتجاه تعبيري في الخط واللون، وعمله (نعش الشهيد) صورة واضحة لأثر الختم الأسطواني اذ التكرار والتسلسل في الحدث الدرامي مع خلوها من المحاكاة الحرفية للأعمال النحتية الموروثة لان الفنان ارتكز في معالجاته التقنية المعاصرة للجانب الجمالي الذاتي.
وكان الفنان (فائق حسن) عميق الاستخدام للألوان ذات الهيئة المحروقة (الاوكر والبرتقالي) في واقعياته وأعماله الأكاديمية وحتى التجريدية التي تعد تأثر مباشراً بالألوان السومرية التي دونت ونوقشت بها الفخاريات. فضلاً عن معالجته المعاصرة للحرف المسماري كقيمة عليا تناهض الجوانب السلبية ذات المردود الفكري المعادي وعمله (الاستسلام ) يؤكد جوانب هذه الحوارية كما ان استلهام الموروث واستحضاره في تجارب وتعبيريات الفنان (ضياء العزاوي) تجلت من خلال دراسته للآثار العراقية القديمة، فاسقط سمات النحت السومري والأساطير البابلية على نتاجاته بتوظيف الرموز القديمة إذ صور الإله السومري (آبو) رمزاً مناهضاً للقيم والأعراف البالية فوضعه وجداناً حضارياً معاصراً في لوحته (شاهد من هذا العصر) فاستقدم تفاصيل الوجه العراقي القديم – وان لم يكن الوحيد- بخصيصته الدورانية وسعة حدقتا العينين وما تحمل من آسى داخلي له جمالية وشفافية دون ترديد ونسخ، بل بتوظيف ذاتي معاصر يرتكز الى التراكمات الحضارية والثقافية التراثية وعمله (الحلم والحالم )يمثل تلك الدراسة والمعالجة للواقع الاجتماعي والسياسي عبر استشفاف الموروث ودراسته وجدانياً وتعبيرياً.
وكغيره الفنان (فيصل لعيبي) لم يكن بعيداً عن التوجه الفكري والتقني للموروث الرافديني في معظم أعماله وعمله (المناضلون ينهضون) تمثل تحفة جمالية لا يمكن للتشكيل العراقي تجاوزها فقد ولف بين التقنية اللونية الأكاديمية وقربها حيال الألوان التعبيرية كضرورة مضمونية وبين تركيبة الأشكال المستمدة من سمات الموروث العراقي القديم بكل تمرحلاته، فوجوه الكتل جانبي بهيئة نحتية متضخمة واتصال أشكاله بأجنحة استقدمت من أجنحة الثور المجنح الآشوري دلالة لقوة المناضلون والشهداء وتساميهم، كاشفاً عن تناغم المناخ الواقعي وموسيقاه المترفعة عن الرذائل الدنيوية أما الفنان (محمد غني حكمت) فارتباطه وقيم الموروث الرافديني تجلى في منحوتاته ونصبه الغزيرة منتبهاً الى تراكمات الأساطير والملاحم السومرية ليسجلها بتقنية ذاتية وما عمله (ختم أسطواني) إلا تأكيداً لهذا التلاحم اذ شكله على هيئة أسطوانية على سطحها خمسة أفاريز لتمثل قراءة معاصرة للإناء النذري الكبير كأحد رموز الحضارة السومرية في الوركاء كذلك اقتفى دورانية وجوه معظم الشخوص النسائية في نصبه مثل (كهرمانة) معتمداً سعة حدقتا العينين والتحام الحاجبين فتمثل معالجة ذاتية جمالية لاثر شمولي. أما خزفيات (عبلة العزاوي) فكانت قراءة لمقتنيات المتحف العراقي القديم وعملها (الأمومة) يمثل دراسة أيقونية للرموز الرافدينية التي تجسد قيم العطاء والخصب والنماء في تضخيم مفاتن الشكل الأنثوي وتجسيد حالة الديمومة والإنجاب كذلك تقصى الخزاف (ماهر عبد اللطيف) القيم الجمالية في عمله (الحضارة) الذي شكله على هيئة كرة (العالم) مغطاة برقائق من الأسفل والأعلى تاركاً منطقة الوسط لكتابات بالحروف المسمارية التي انبثقت من العراق القديم قبل خمسة آلاف سنة ليصبح منها العراق مركز الإشعاع الفكري الحضاري.
ان تجارب الفنان العراقي وعائديتها الى دراسته لمناهج الفن الأوربي لم تمنعه من التفرد برؤية فنية ذاتية مستمدة من تاريخ حضارته في النحت السومري والآشوري والبابلي، فكانت رؤيته تفاعل للموروث والمعاصرة حتى امتلكت أعماله أصالة متجذرة واصبحت علائم الفنان واضحة في صرح الفن العراقي والدولي بارتباطه الصميم بالماضي المشرق عبر حريته المطلقة في أسلوب الطرح والتقنية كتعبير عن نماء التاريخ ووعي الشخصية الفنية. فتوظيف الموروث تمثل قضية وطنية وعملية إبداعية جمالية غايتها تهذيب القيم الروحية، كما ان الفنان في استنهاضه قيم الموروث تيقن ان الإبداع والأصالة في العمل الفني المعاصر مرتبطان بتعقب النتاج الإبداعي لمراحل التاريخ السابق لان (العمل الخلاق يستلزم توافر مرحلة تاريخية سابقة تمهد له كما يستلزم إمكانيات ذهنية ملائمة) فان تجربة الفنان الذاتية خلصت الى أيجاد أساليب فنية تشير الى المضامين الحضارية القديمة برؤية معاصرة وأشكال اكثر عصرية الى جانب توظيف الحرف العراقي السومري والزخارف الهندسية والحيوانية والأسطورة.
ان الفنان التشكيلي المعاصر يعد من الشرائح الواعية المفكرة بتصديه وترقبه لحالات المجتمع، فهو على دراية بأهمية الموروث العراقي القديم في استنهاض قيم المجتمع وان سيعه من توظيف الأثر بدلالاته الشكلية والفكرية تمثل نضجاً للإفرازات البيئية غايته إيجاد خطابات تشكيلية ذات ركائز متجذرة ، كما انصب وعي الفنان التشكيلي العراقي المعاصر إلى قراءة الموروث ومعايشته على وفق النتائج المستحصلة من التجارب التشكيلية العالمية في قراءتها الموروث الحضاري الرافديني وتعقبها المراحل التطورية في تقنيات الفن ومن ثم ابتداع إنجازات تشكيلية لأساطين الفن العالمي. لذا تدارس الفنان العراقي بنية موروثه الحضاري بحميمية أوصلته الى العالمية بركائز محلية على وفق حقيقة (عالمية المحلية) في الفن سواء كانت المعالجة اجتماعية أم سياسية أم تزيينية.





نُشر في الملحق الثقافي لجريدة الأخبار الصادرة في البصرة . العدد / 3 / نيسان 2004 2004

الأصالة في الفن وحتمية الإبداع

تشاغل معظم الكتاب والفنانين والنقاد بموضوعة الأصالة من قبل ، كل حسب توجهه وفهمه للإبداع على فرض أن الإبداع والأصالة في كينونة واحدة ومسار واحد . ويرى الناقد جبرا إبراهيم جبرا اتصال التطور والرقي والأدب والفنون مع الأصالة . وفي اللغة والأدب العربي يراها الناقد كلمة تخطت معناها فشملت العراقة ( من العريق ) الذي ترسخت جذوره في الماضي البعيد المجرد من الأدران التي تشوب السمات المشرقة فيه لأنها تعايشت معه في زمن ومكان معينين ، وفي العمل الفني ارتبطت الأصالة بالإبداع عبر تنظيم العناصر المشتركة والمترابطة في تركيبات جديدة لها رؤية تطابق المؤهلات الذاتية أو تشترك معها لتمثيلها ضمن منفعة ما ، وقد أطلق على هذا المفهوم بالنظرية الترابطية للإبداع ، وعلاقة هذه العناصر فيما بينها سواء تقاربت أو تباعدت تتناسب ونتائج الإبداع ، فمتى تشظت العناصر قبل دخولها في التركيب الجديد وتباعدت عن بعضها كانت نتائج الإبداع أكثر تأثيراً ، في حين ترى نظرية الجشطلت أن الإبداع والأصالة من الجوانب غير المتكاملة فترى الكل قيمة عليا والأجزاء تفحص وتدقق ضمن إطار الكل . الأصالة قيمة مثلى ارتبطت بالمبدع في شتى مجالات الفنون والأدب بعد تماس نتاجاته المعاصرة والإرث التاريخي الحضاري الغني بالمؤهلات الإنسانية ذات التطلع المستقبلي ، وتعكس النتاجات الابداعية فعالية الإرث الحضاري في معالجة قضايا المجتمع المعاصرة وتهذيبها على وفق مقتضيات الحاضر المرتبط بالمستقبل تطلعاً واندماجاً ، فالأصالة إضافة إبداعية واعية للموروث من شأنها تنمية القدرات المادية والروحية لدى المجتمع لاسيما الفنان ، وتتجسد أصالة الفنون بامتداد جذورها عميقاً في بنى الواقع الذي ولد فيه ومنه دون قراءة التاريخ ومقارنته مع الواقع ، بل باستشفاف قيم التاريخ وتوصيلها عبر العمل الفني للمجتمع المعاصر لأن التاريخ تواصل متسلسل الحلقات ، لذا فان الأصالة نظير للإبداع وأساسه كله بسبب عدم انسياقها للشائع من القيم والأفكار وتميزها بانسلاخها من قوقعتها وتقليدها للمألوف ، وكما حظي الإبداع بتعاريف شتى حظيت الأصالة بتلك التعاريف ومنها التعريف الفسلجي للأصالة ( القدرة على الابتكار ) المشتق من الدماغ ومراكز المخ الحسية ، لان الخلق والإبداع متأتيان من العمل الذهني للممارسة الناجمة عن مزاوجة إمكانيات الفرد الاجتماعية والثقافية . وفي الفكر الاجتماعي تعد الأصالة لدى الكاتب والمفكر مرتبطة بأدبيات الموروث ومعطيات الواقع الاجتماعي المعاصر وتكون أساسية في مناهضة الظواهر التي تنافي التقاليد والأعراف ولاتمت للمجتمع الأصلي بأدنى صلة ، لذا فان التواصل الحضاري أمر حتمي في عصر تلاطمت فيه النظريات الغربية ، فالأصالة محصلة لدراسة الموروث والتوجه به نحوها ولا يتأتى هذا إلا بالربط الجدلي مابين الموروث وواقع العصر والقدرة الذاتية المتفردة للفنان المعاصر . وإن الاشتغال في منطقة الأصالة لايعني أن يُدرس الموروث الحضاري بتطرف لأننا نرى إن المتخصصين في تبنيهم للموروث الحضاري هم على طرفي نقيض فمنهم من تمسك به دونما تمييز وبشكل متطرف عنصري أو إقليمي ومنهم الرافض له حينما عده نكوصاً في الفكر بمجرد النظر إلى الماضي ( الوراء ) ومن ثم تقهقر في المجالات الأخرى ، وظهر ما بينهما الجانب الانتقائي الذي تمسك بالموروث استجابة لما يخدم أيدلوجيته وفلسفته وحاجته ، وهي أطراف بمجملها أساءت إلى الموروث أكثر مما قدمت له العون والمساعدة في التعايش مع القدرات الحاضرة لأنها رؤى إما تخبطت بلا علمية بمناداتها في تقصي الموروث الحضاري أو نقيض مدسوس أو هي انتهازية في المنهج والأسلوب ، لذا حالت مابين الموروث وجوانب المعاصرة والأصالة ، وارتباط الأصالة بالمبدع يتأتى من توظيف الموروث وليس تسجيله بأيقونية أو محاكاتية إنما كشكل من خلال إبراز القدرات الملهمة للإنسان المعاصر وإعادة بناء ذاته بوعي جديد لأنها لم تكن بالضد من الإنسان المعاصر والمعاصرة فيما إذا أدرك خزين مجتمعه الثر ووعى متطلبات عصره وما يمكنه من تسخير قدراته في إضافاته للثقافة وقد تأتى فهم الفنان للموروث الحضاري على انه ليس استذكارا متواصلا غايته الديمومة في العطاء ، وقد تكون معطيات التواصل الحضاري إلى جانب الروح المتوثبة للفنان من الغور في عمق التاريخ وإدراك قيمته ومحتواه ، لأن الأصالة في الفن تحفيز للقدرات الذهنية والتقنية لدى الفنان وإضفاؤها بأسلوب لصيق مع الموروث وبالتالي يكون العمل الفني قد امتلك صفة الإبداع كما أن سعي الفنان بمواصلة حاضره بماضي مجتمعه المشرق وجهده المضني في التطلع إلى المستقبل لابد منه للوصول إلى حالة النهوض الحي ليرتقي بعمله الفني ، ولعل عبارة الناقد شاكر حسن آل سعيد تشير إلى المعنى " ... إن العمل الفني سياق ديناميكي علينا أن نقرأ ملامحه في المراحل المتقدمة مثلما نقرأه في المراحل المتأخرة.. وهذا النسق وليد النسغ الذي يستبطنه ..." ويتضح ذلك في ناحيتين ، الشخصية الفنية وقيمة الفنان التاريخية وكيفية ارتباطه بما يحيطه، لان الفنان مرتبط على الدوام بين ارثه الذاتي والشخصي وماهيته الإنسانية المرتبطة بموروثه الحضاري الفني إلى جانب الإرث التاريخي لمجتمعه ، فالأصالة ليست تشبثاً فيها بل ما هو مغاير ونابع أصل صاحبه ويعتمد بدأه من ذاته . أي أن أصالة الفنان تعتمد على الخلق الذاتي والتميز والجدة في الرؤية باعتماده الاتصال بالماضي ، لان الفنان الأصيل هو من حوت تجاربه تجارب مجتمعه منذ القدم انطلاقا نحو الآتي لان الأصالة في الفن ما حملت بذرة المستقبل . وتأسيساً على ذلك تعد الأصالة منفذاً توصل المبدع للجديد والمتفرد كما ترتبط أصالة العمل الفني بثوريته في خلق مجتمع له قيم متحررة وهذا ما أشار إليه ( ستيفن ماركوز ) على حقيقة أصالة الفن كونه ثوريا من خلال تحفيز الأسس التي تعتمدها الأيدلوجيات المتبنية للواقع السائد . فالفن رقي يسو بالعقل البشري ، لذا اقتضى أن يكون الفن من الوجهة التاريخية احد المرتكزات الأيدلوجية لخلق مجتمع متعقل ذي عدالة في التعبير عن الحقائق الكبيرة والأخلاق والتقدم هو بذلك مرتكز للتحرر الاجتماعي والسياسي . إن الأصالة في الفن حصراً تكمن في نوع النتاج الفني وليس في كمه لأنها إضافة جديدة للموروث وان محاولة تشخيص النتاج الفني لاسيما التشكيلي العراقي وإخضاعه إلى عملية الفرز للحيلولة دون الخلط الزائف أو الساذج من النتاج المبدع الذي رافق الكم الهائل من الأعمال التشكيلية العراقية المعاصرة ، حتى إن وقوف النقاد والمنظرين التشكيليين في خنادق فكرية متعددة إزاء عرض النتاجات إلى الجمهور مابين إيكال المهمة إلى الجمهور في عملية الفرز والتشخيص وبين تكفل اللجان المتخصصة من تشخيص الأعمال الجيدة قبل عرضها ، وبين هذا وذاك فان الأصالة في الفن التشكيلي العراقي المعاصر لها أوجه متعددة منها أن الفنان خلال خلقه لما هو أصيل فانه يستمد خصائص الماضي المشرق ما يحفزه على تطوير حياة المجتمع عبر اللوحة أو العمل النحتي أو الخزفي واغناء رؤاه المستقبلية ومشاركته في عملية التخطيط ومنها ما ارتبط بالثورة وبالتغيير والتفاعل الإنساني من الإرث الحضاري الفني الذاتي ، وما نصب الحرية للراحل جواد سليم إلا رافد تفرع من هذا المصب الذي وعاه الفنان في فترات سبقت جيله من الفنانين في جماعة بغداد للفن الحديث وغيرهم ممن عاصروه لخلق نتاجات لها شكل ومضمون إنساني حضاري بعيد عن الحس الإقليمي الضيق ، وماذا كانت جورنيكا بيكاسو 1937 ثورة إنسانية عالمية فان ( نصب حرية ) جواد سليم لم يكن أقل شاناً من هذا النهج من أمانة نقل الموروث الإنساني عموماً وموروث شعبه بصورة خاصة ويصدق طرح جبرا إبراهيم جبرا في تحديده العمل الفني الأصيل أن " يحمل العمل غذاء الأنساب.. على نحو ما يتصل بأبعد وأعمق الأصول التي عرفتها التجربة الإنسانية .. وان يحمل العمل الإبداعي بين تضاعيفه بذرة المستقبل " . إن تحقيق كل عمل فني جمالي ينتمي إلى الموروث لابد لمبدعه من استيعاب الخصائص الجمالية والرمزية والفكرية لحضارته بحيث يحتل الموروث بالنسبة للمبدع المنهل الجوهري المتجذر لان التوحد مع العمل الفني ناتج طبيعي من صدق التعبير والإحساس بالنتاج ( الأصالة في العمل الفني ) وما على الفنان الأصيل الذي يمتلك رؤية وقيمة وتصوراً للواقع إلا أن يرتقي بالمتلقي احساساً ووجداناً . وهذا الحس التعبيري للفنان التشكيلي هو إبداع فني مؤثر ، لان الرؤية الحضارية للفنان المبدع تدخل في بنية العمل الفني حين يعبر العمل عن العودة إلى فطرة الماضي وهو في فكره ورؤياه الجمالية يجعل من العودة إلى الفطرة والينابيع الأولى من مهام العمل الفني الأساسية .





نُشر في جريدة المنارة الصادرة في البصرة في العدد / 20 / تشرين أول 2003

الدلالات الفلسفية والجمالية للرمز في الفن العراقي القديم

يمتد تأثير المتغيرات البيئية في بنية أي مجتمع إلى جميع منافذ الحياة كالفن والميثولوجيا* لاسيما أن منافذ الحياة تتضح تأثيراتها وتتعالق فيما بينها كتأثير أو تعالق العقائد والفن والميثولوجيا أو تأثرها اجتماعياً بالمعطيات المتوافرة، فلولا وجود دجلة والفرات لما ظهر فن الفخار والنحت بهذا الشكل الذي يساوي أو يفوق تقنياً وجمالياً ما تواجد في أية منطقة أخرى مجاورة . واستحداث نظام الري عبر شق القنوات كامتداد للأنهر التي تُغني الزراعة وتنميها لأن قوة نفوذ الحضارة يكمن في المعطيات ، وأهمها الماء ، وبدونه تفقد الحضارة من محتواها الجزء الكبير إن لم تكن قد فقدت كيانها برمته لأن الماء عنصر الخلق والإبداع الفكري الحضاري ، واستناداً إلى ذلك فأن المرجعية المعرفية التي ترى الماء أصل الوجود الحضاري وقابليته في صهر الفعل الإنساني والطبيعة ضمن نسق واحد أساسه نزعة فلسفية أغنت الفكر العراقي القديم – أن الخليقة تلد من الأصل – كتصور فلسفي علته اندماج الطبيعة والذات الإنسانية (م 27 ص 14،15) ، والماء كمعنى دلالي للحياة ، تزداد به الأرض خصوبة وإنتاجا ً، أكدته الميثولوجيا العراقية القديمة في قوة عناصر استنزال المطر كالفتوة والشباب خصيصتا الإله (تموز) كارتباط نفسي بهذه القوى، وبفعل انصهار الفنون والواقع الفكري توصلت الفنون والآداب إلى كينونتها بتصوير الكهنة وقسوة الحياة عقب الفشل في إنزال المطر سحرياً، فصورت المعاناة مصداقاً لعزوف الفنان الرافديني عن الواقعية إلى التجريد والرمز في تصوير الأشكال الآدمية اختلفت عنها في التصوير الواقعي للحيوانات (م32 ص 2،3) لأن " الفن .. يتسامى فوق مستوى الواقع، والتعبير عن الجمال يقتضي علوه عن الطبيعة والواقع، والجمال هو التجلي المحسوس للفكرة" (م 20 ص 90) بافتراضات مسلْمة أن الفن العراقي تناغم للجمال والبعد الفكري فيه . تسعى الدراسة إلى استكناه نتائج توظيف الفن العراقي القديم للرمز من الناحيتين الفلسفية والتقنية كتطورية جمالية ، واستشفافاً لمقتضيات الفنان العراقي القديم بتفعيل الرمز كمحفز اجتماعي وطقوسي تبوء الرمز مكانة ذات مغزى .
وتحديداً لتعريف الرمز كمصطلح فقد ورد صريحاً في القرآن الكريم في الآية (41) من سورة آل عمران بقوله تعالى ((..آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً …)) تنويه لأمر الخالق إلى زكريا بكف لسانه عن الكلام والنطق ، والتعامل مع الآخرين مكتفياً بالإشارة والإيماء بالشفتين عرفاناً لاستجابة رب العالمين دعاءه أن يرزقه غلاماً (م26 ص 74) ، إلا أنه ورد بألفاظ أخرى متباينة ولصفات أشد تبايناً كالتين والزيتون والفجر والعاديات والشمس والقمر وغيرهما مما أزدان بهم القرآن الكريم ( م13 ص42) ، ويسمى الرمز في كلام العرب (فن اللَحْن) من الفطنة والبديهة والتورية (لحن زيد لعمر) قال له ما يفهمه دون غيره (م 35 ص33) وظهر معنى اللحن في القرآن الكريم في الآية (30) من سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تبارك وتعالى (( .. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..)) ، دلالة لمعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المنافقين أصحاب القلوب المريضة في تلاعبهم بالألفاظ وصرف الكلام عن صيغه المعتادة (م 26 ص571) ، والرمز ورد بمعنى الإشارة والإيماءة بالشفتين والحاجبين (م 17 ص256) ،أو الإيماءة بالحواس والأعضاء لدى الكائنات الحية (م 13 ص 39) وجاءت كلمة الرمز (Symbol ) عبارة عن صورة أو تمثال أو إشارة أو علامة تدل على معنى الرمز ، والرمز فن قائم بذاته يُدّل به على الأشياء المعنوية بدافع التشابه والتماثل فيما بينها وقد تداوله الأقدمين في الأمور العقائدية والأدبية وعُدَّ الصينيون من الأوائل الذين استخدموا الرموز في زمن سابق غير محدد (م 8 ص668) ، والرمز تعبير اصطلاحي يحل محل غيره ويصبح بديلاً عنه كعلاقة اصطلاحية رمزية تستخدم استخداماً متصاعداً لتمثل مجموعة من الأشياء أو نوعاً من أنواع العلامات (م 38 ص289) ، والرمز عند الجماليين ومنهم الفيلسوف الألماني هيغل (1770 – 1831 م) هو أُولى مراحل الفن (م 14 ص255) ، فيرى أن ابتكار الشرق للرمز كان البدايات الفعلية للفن دعاها " الرمزية اللاواعية" وأن للرمز دلالة ما بين المدلول والشكل ، وربط الإبداع الرمزي بالميثولوجيا التي تعد إبداعاً روحياً تنطوي عليه رموز عميقة بالتأصل وأفكاره عامة (م37 ص10،11-20) ، وتراه (سوزان لانكر) بوصفها " أن الفن رمز …" (م 18 ص10) ، أما يونك فالرمز عنده "أفضل صيغة ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً ولا يمكن أن توضح أكثر من ذلك بأية وسيلة أخرى" ¬(م7 23 ص8) . يبرز الرمز كنظام جديد مطابق لموضوع مستخرج من التشخيصية التي لا تتغير هويتها بتكرار الشكل أو تجديد تصويره (م4 ص23) لأن التشخيصية ظاهرة معتادة تحولت بفعل التغير في الذهنية المتحفزة إلى نظام جديد خفي في الشكل المعبر عن الطبيعة فكان التجريد ذو القيم الجمالية التي تخدم الغرض الفني (م21 ص23) وأن الإشارة والإيماءة والرمز تمثل إحدى طرق الدلالة ولها معنى غير مباشر في الكشف عن هدف ما بأسلوب لفظي وارتباطه مع صفة الخفاء (م13 ص41) ، أما التعريف الشائع للرمز هو تنويه بإشارة مرئية إلى شيء خفي (م7 ص54) ، فهو دلالة خارجية تحتوي على مضمون ينبغي استحضاره وهو غير ملزم أن يكون مطابقاً للمعنى حتى أن الفنان حين يستحضر الصفة باختياره الرمز لا يفترض عليه أن تكون الصفة مطلقة لشيء ما أو محددة به إلا أنها تكون الغالبة فصفة المخادع غالبة على الصفات الأخرى (م37 ص 12،13) ، وأن الرموز شملت العلوم كافة كالرياضيات ، أما في الفنون التشكيلية فقد سميت إحدى اتجاهات الفن التشكيلي الحديث بالرمزية يفترض أساسها التقني والفكري ما يفرزه العقل الباطن عن طريق اللاوعي، والإنسان الرافديني استخدم الرمز كدلالة اجتماعية عقائدية أفرزته منجزات فنية تعبر عن توجهات المجتمع الفكرية ونوازعه تلتقي عندها الطقوس التعبدية والسحرية ليرتقي فيها المنجز بالمضمون على الشكل (م 9 ص30) ، وتوخياً للحماية تعددت آلهة السومريين لتؤول إلى رموز أثرْت الفن بروحانية طافحة بالحياة للواقع ضمن العالم الديني الأوسع لأن الفن الديني يشمل الدنيويات والمقدسات،وأن المقدسات ذات الهيئة الحيوانية لها دلالات رمزية تقارب في تصويرها الطبيعة كما توضح الرمز في المجسمات الحجرية في عصر الوركاء وما تلاها لينبثق ( الشكل 1)
كتعويذة في مجسم فيه ثقبين دائريين في الرأس رمزاً لآلهة العين استخدمت
للأغراض الروحانية والطقوسية ، تعد من التأويلات الشكلية للطبيعة (الواقعية)
نحو تجريدها من خلال قراءة بنية الشكل في المعنى (م 11 ص 128،129) .
أن الفن العراقي القديم بتأكيده على التجريد أمام انحسار الشكل الطبيعي
(اللاشكلية في الفن) ، أدت إلى أن تخبو قيمه في الرمز، لأن العقائد العراقية
القديمة كعلة ميتافيزيقية خارج حدود الإدراك البصري آلت ذهنيته إلى تصوير الآلهة
على ما يرمز لها ولأنه الوجه الأخر للفكر الإنساني فهو زاخر بالرموز التي تمثلت
بتباينها في الشكل والمعنى بفرض اجتماعي ونفسي ووظيفي، والمرأة في المنجزالرافديني يتراقى فيها الرمز ويُعلي منها كقيمة خصبية ، صورت (الآلهة الأم) كرمز ديني يبثه المنجز لشكل امرأة بدينة واضعة يديها على صدرها، مبالغ في حجم ثدييها ووشمت* أجسادها يجسدها شكل الأم والطفل (الشكل 2) فضلاً عن الرموز الخصبية الأخرى الدائرة والمثلث للحيوان والشكل المعيني رمزاً للسمكة والخط المنكسر ثم الشكل المربع للنباتات، وأن اختزال الصورة إلى الشكل المجرد البسيط اتجاه تقني وفلسفي أتبعه الفنان الحديث في رسم الطبيعة (سيزان، ما بعد الانطباعية)، وما الزخارف في النتاجات الفنية إلا تجريدات اعتمدت إلى عناصر منها تضاؤل الشكل الطبيعي وتحقيق الشكل الهندسي تعبيراً لغاية لها بنية اختزالية (م21 ص 41،42،43) .
أما رمزية تشابك الأيدي سمة الفن السومري في عصره الذهبي وما بعده (الشكل 3) كدلالة للصلاة وللعبادة المطولة مفادها صفة الخلود ضالة الإنسان العراقي القديم ، وتدفق الماء من الإناء التي تحمله الأيدي المتشابكة في بعض تماثيل الآلهة كتذكير بمنافع السماء على الأرض (الشكل 4) (م 5 ص41) .














أما القيم الجمالية فأنها كما رافقت الإنسان العراقي منذ صناعاته الأولى للفخاريات وتحسيناته في الشكل والمادة واغنائها بالزخارف والأصباغ للمحافظة عليها (م 22 ص 29). كذلك الرمز قد حظي بالإطار الجمالي الذي فرضته المعطيات عليه ومنها استبدال الصور والأشكال بالرموز والتجريدات عبر أدراك قيمة الفن بابتعاده أن يكون شيئاً مادياً استذكارياً وأصبح تنويراً عقلياً انحسر التشخيص منه ليصبح اختزالاً لا يمت للشكل التصويري أو التشخيصي بأية صلة عينية ¬(م 4 ص 72) وهنا يظهر سبق الفنان العراقي القديم كآلية اشتغلت في (الفن الحديث) الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا أبان ظهور حركة الانطباعيين الفرنسيين في الفن والأدب التي ساندتها النظرية الشكلية* إحدى النظريات النقدية في الفن الحديث إذ جاءت كرد فعل وتحد مباشر لنظرية المحاكاة الجمالية التي ترى الفن مرآة للواقع في محاولة ترديدية غايتها إيضاح الصورة في الشكل والمضمون (م 16 ص253) .
ومنذ أن ظهرت الكتابة في الوركاء تطورت وانتقلت على مر العصور لتؤول في عصر جمدة نصر من التشخيص (الرموز والعلامات) إلى مقاطع ذات منحى صوتي وإشاري على شكل خطوط مسمارية (م 3 ص114) والكتابة منذ نشأتها وسيلة للتدوين اللغوي الذي يحمل معنى دلالياً للغة في دلالتها الشكلية (المقروءة) فظهر الخط كإشارات ورموز يحمل قيماً جمالية كثيرة توائم خصوصيته وكيانه عبر طبيعته الانسيابية والتكرارية فتبرز هويته الجمالية مرتكزة إلى شكله المقترن بجذوره الجمالية والحضارية (م 21 ص77 ،82) ، والرمز كان مستخدماً في البدايات الأولى للكتابة التي بدأت صورياً ما لبثت أن تحولت إلى رموز لأفكار تعبيرية بعيد عن التشخيص
وبالتالي تحول الرمز إلى اصطلاح كتابي أطلق عليه الكتابة الصورية المقطعية وبالتحديد في
الفترات المتأخرة من ظهورها ومعنى الاصطلاحية أنها رمزية متطورة عن سابقتها وصوتية
بمشاركة الصوت البشري مع الرمز، ويظهر أن الكتابة المسمارية تتكون من حروف تشبه
المسامير ( ) قوامه مثلث مقلوب قاعدته في الأعلى يستند على خط مستقيم عمودي ،
والشكل استمده الفنان السومري من الشكل الأنثوي من التقاء الفخذين والعانة يتولد الشكل
أعلاه( يشابه الحرف) ، لذا فأن الكتابة اقترنت بالعطاء (الكتابة ومنطقة الخصب) أنهما يغذيان
الذات الفردية والمجموع بما يميزهما فكراً وعدداً كخصائص أرقى الحضارات كالحضارة العراقية
القديمة (الشكل 5) (م25 ص359) .
جسد العراقيون القدامى الرمز بهيئة صور حركية باتجاهين على وفق صوره الظاهرة في المنجز
كعلاقة الإنسان مع الإله (العروج) وأفضل ما تمثله أسطورة كلكامش بشخصه بينما يكمن الاتجاه الثاني
وفق صورة الإنسان والحيوان في شخصية انكيدو أو ما يسمى بـ(الإشراق) ، ويتجلى في الاتجاهين تكامل موضوعي ذو قيمة جمالية وفلسفية ومثالية * ، لا سيما أن المثالية في الفن العراقي القديم متأتية من التكامل الجمالي في إغناء العلاقة بين الطبيعة والثقافة والعلم والإنسان، وتكون أكثر اتضاحاً في الطرح الميثولوجي عبر التقنية التجريدية التي تتضمن بين طياتها المعالجة التركيبية للأشياء (الشكل الآدمي والحيواني والإله ) وحكاية كلكامش وانكيدو نضوج في الشخصية الأسطورية ذات القيمة الجمالية من خلال الوضع المثالي لعلاقات عناصر الأسطورة فيما بينها(م 21 ص 25،26) ، والسومريون في مراحلهم المبكرة توصلوا إلى مشاهد معقدة كرموز حركية حجرية وفخارية برزت خلالها ممارسات طقوسية وسحرية انبثقت منها المنحوتات الآدمية ذات المغزى الديني أو السحري كالتماثيل المعبودة (الشكل 6) وانبثق (الشكل 7) يجسد تمثالاً
حجرياً لوحش أسطوري آدمي ذو رأس لبوة، وتعاود ظهور الرموز المركبة في
طقوسيات المجتمع الرافديني عبر المنحوتات المجسمة والبارزة بتصويرها الأشكال
الآدمية وارتباطاتها بالطبيعة تحرزاً ورهبة مما يحيطه (م 22 ص 44، 49، 51) ،
وتفرض الميثولوجيا السومرية أن الإنسان صَنعة الآلهة يفنى ، وحياته مرهونة بها
لذا اعتقد أن البطل (الشخص الرمز) أستسلم للأمر، فجاءت معتقداتهم الدينية تؤكد
على تأمين النموذج لما بعد الفناء فانصبت فلسفتهم الحياتية على مبدأ الخلق والبعث
والإخصاب.
كما حصن السومريون أنفسهم مما يحيطهم بفعل التغيرات المناخية فارتبطت
قابلياتهم الذهنية والإرادية بالضد عن عناصر الطبيعة أطرتها طقوسهم التعبدية في
الصلاة، وتواصلاً مع القابليات الذهنية أكدتها الميثولوجبا السومرية على مبدأ الخصب
والنماء التي تعد من أسس البركة والعرفان السومرية وقد تنامت الفلسفة العراقية
القديمة والمعتقدات لتكون في إطار جمالي عبر الفنون كالنحت والفخار والرسم، ينبري
الرمز منها كرد فعل للرهبة يصورها رأس الأسد المرتبط بالنسر( أيمدوكود)* دلالة
على عاصفة المطر الخيرة الملبدة بها سحب السماء السوداء متمثلة بجناحي النسر
المفتوحان على الجانبين (الشكل 8) ، وصور الإله المحتضر في كتاب الغصن الذهبي** تموز يهبط من الجبل عند اصفرار النباتات دلالة لقرب موتها جراء حرارة الصيف جالباً معه الخير والبركة بزواجه من اينانا (عشتار) في الربيع حيث خصوبة الأرض وانتعاش القطعان الحيوانية (م 22 ص 89،90،91،93) .
يفترض المنطق الميثوبي (mythopeic) تمازج الشيء وهويته (شبيه الشيء هو الشيء نفسه) ، فالرجل
كقوة طبيعية يشبه أحد الإلهة ويتلبس هويته ليمثل دور الإله كما تقمص
الملك (دموزي) هوية الإله (دموزي) الذي تزوج (اينانا) فأصبح (دموزي)
آله الخضرة والحشائش فكان الإله (دموزي) يحضر عند حلول الربيع (الشكل 9)
(م 36 ص 236) ، فصورت الآلهة بأوضاع مختلفة منها ما يحمل فأساً يمزق
السحب وإطلاق عواصف المطر، والثور كعنصر تذكير وفحولة تعالق برمزيته
والطبيعة والإنسان المؤله كرمز خصبي ديني (م 5 ص 98) .
إن سيطرة القوة الإلهية الخالقة لدى العراقيين القدماء على عناصر الطبيعة وما ينتج
عنها من ظواهر جعلها ذات كلمة فصل في إصدار الأوامر ، على الإنسان تنفيذها
(م 25 ص 156) ، وهو جوهر الفكر التأملي العراقي القديم في انقياد الإنسان للقوى
الكونية الكبرى يخدمها ويطيعها ويتضرع لها بالصلاة وتقديم القرابين (م 36 ص 237) ،
وأشارت العقائد إلى المعجزات التي تكرم الموتى وتهيأهم للحياة بعد الموت حتى أن الدلائل
قد أبانتها في قلة عدد أضرحة الملوك بالقياس إلى العدد الكبير من الملوك الذين حكموا
بلاد النهرين (م 22 ص 93) ، وتذهب البدايات الأولى للوجود في العقائد العراقية القديمة
إلى امتزاج الماء العذب (أبسو) بالماء الأجاج (تعامت) * ومنه كان الخلق الأول المتمثل
بالإلهة (م 11 ص 77) وإليه يرجع الاعتقاد في أصل معالم الكون الرئيسية وكيفية تأسيس
العالم وفي وصف الكون أشارت القصيدة
" … عندما في الأعالي لم يكن للسماء ذكر
ولم يخطر بالبال اسم لليابسة تحتها ،
عندما لم يكن إلا ابسو ، والدهمــا،
وحمو وتعامت – هي التي ولدتهم جميعاً
يمزجون أمواههم معاً ،
… عندئذ تكون الإلهة فيهم " ( م 36 ص 200 ، 201) .

أن فلسفة الحياة لدى الفنان القديم أطرت رموزه بمعان غنية بتعبيراتها ، فالمعزاة الدائرة والصليب المعقوف المؤلف من شعر النسوة (الشكل10) دلالة ذات معنى في ديمومة الحياة جسدها في اشكال بشرية وحيوانية ضمن حلقة دائرية لا نهاية لها (م 5 ص 92). كما أكد الفنان على
المرأة مشخصاً فيها المناطق الخصبة بعد أن زينت النساء بالقلائد
والأزرار ووشمت الخدود وقد صورت الإلهة على هيئة الأم
(الشكل 11) (م 6 ص 34،35) .
وقد عثر على مجسمات لنساء عاريات بولغ بتجسيم
أعضاء أنوثتها كرمز عقائدي مقدس (الشكل 5)
(م 31 ص21) وما عثر عليه في النصوص القديمة
كشف عن الدلالات العقائدية الدينية بارتباط الدين
والسياسة فصورت الملوك في قبضة الإلهة، والملوك
هم وكلاء الإلهة في الأرض، أما العبادة عند العراقيين مبعثها
الخوف من شرور الحياة، وأن الحياة الهانئة الآمنة تشغل تفكيرهم
فاتجهوا إلى الصلاة وتقديم القرابين لدفع الأذى والمرض وطلب
العيش الآمن أملاً في العصمة من الكوارث كما افرطوا في
الخضوع للكهنة حتى أضحت عقائدهم دنيوية خالصة بعيدة عن
الرؤية الأخروية، فوضعوا أنفسهم وعوائلهم في أمرة الكهنة وكانوا
يتفاخرون بخدمتها (م 11 ص 52-56) .
أن العقائد العراقية القديمة تميزت بالديمومة في وجودها، فالديانات التي اعتقدها ومارس طقوسها العراقيون المتأخرون هي ذات الديانات التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ، وأنها ارتبطت بعلاقة الإلهة فيما بينها خلال علو شأن إله دون غيره تبعاً للنظام السياسي وتبعاً للاستقلالية السياسية فظهر مبدأ التفريد ، كما ظهر مبدأ الشرك والتشبيه الذي ظهر واضحاً في العقائد البابلية ، فالشرك جاء من تعدد الإلهة (Polytheism) (م 28 ص 227) ، أما التشبيه فقد صور الإله كالإنسان في ممارساته الحياتية، له ما للبشر من نوازع وأحاسيس من قوة ومن ضعف وإن للإله قيماً أخلاقية فضلى عجز الإنسان عن إدراك ماهيتها لاسيما أن التشبيه يعد من أوليات المنطق في الميثولوجيا (م 25 ص169) .
إن العبادات العراقية القديمة هي رد فعل للتفسير العقلائي لعملية خلق الإنسان ، فلجأ إلى عبادة الإلهة والانصياع لأوامرها والخوف من عقابها فظهرت المعابد لمزاولة الطقوس العبادية التي تعددت وتباينت من فترة إلى أخرى، كما تعلم العرافة لطرد الشياطين والجن من جسد الإنسان وشفائه منها لأن المرض يعد نوعاً من المس الجنوني فظهر عالم السحر كارتباط الفعل الأرضي بما وراء المنظور العقلي أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر (الباراسايكولوجي)، وتمثل الفعل الأرضي برموز وإشارات متداولة أثناء ممارسة الطقوس العبادية كرفع اليدين ابتهالاً للآلهة واستغفاراً لها من الذنوب كما شخصتها الفنون في المنحوتات والرسوم كممارسة الركوع أمام الآلهة أو ممارسة ذبح وتقديم القرابين (الشكل 12) (م28 ص 256) .
ولقد كان يقين العراقيين القدامى بنفعية الإلهة من خلق الإنسان
الذي تيقن أن الحكم الإلهي جارٍ لا محالة وأن الموت قدر صائر
والخلود للإلهة حسب، إليها ترجع كل الفضائل الأخلاقية ولذا فأن
الإنسان العراقي القديم قد جُبل على فطرته أن يكون أسيراً
لرغبات الآلهة ومتطلباتها وأن حب الإنسان للخير والعدالة ما هو
إلا امتداد لحب الآلهة للخير (م25 ص 191) .
وظهرت تماثيل الأسس السومرية ذات الطابع التجريدي والرمزي
من خلال عناصرها التي عملت منها كالثور المضطجع وحامل السلة
ذات الشكل المستدق في الأسفل وغيرها غايتها جلب الخير والسرور
إلى الأرض بعد أن تُختزن بقوة خفية تدفع الأشرار إلى ما تحت
الأرض وتمنعها من إلحاق الأذى بالبشر (الشكل 13) (م 5 ص292) .
إن التكوين الفسلجي للإنسان بوصفه ذا عقل مفكر حتماً ستولد لديه
الرغبة في التعبير المرتبط بالعقائد وبخاصة أن الفن القديم كان لصيقاً
بالدين ودونه يفقد الإنسان ذاتياً للحياة من أفكاره الملهمة لاسيما أن
الفكر السومري الديني ما هو إلا تأملاً ذاتياً للحياة ، وأن الديانة
السومرية توضح أهمية الفكرة القائمة على الحياة بعد الموت ، كما
يمتلك الملك السومري السلطة الدنيوية حسب، وأن المشاهد المصورة
للآثار السومرية وما تلاها من حقب حضارية تظهر الملك في مواجهة
الإله طلباً للمعونة والحماية (الشكل 12) ، كما سجل الفنان العراقي القديم
الموضوعات ذات التأثير السحري والديني في المنحوتات التي وظفت الشكل
الإنساني حصراً ، جعلها مغزاها موضع المنحوتات التي تعبد (الشكل 6)
(م 11 ص 18،19،22،23) .










أن ارتباط الفن العراقي القديم بالعقائد لم يكن بمعزل عن الحس الجمالي للفنون عامة لذا يرى الباحث استناداً إلى ما ورثناه من مآثر الفن القديم مخالفته رأي (أندريه بارو) بإنكاره اهتمام الفنان العراقي القديم بالحس الجمالي في نتاجاته الإبداعية التي تشمل الرمز كأحد منافذ التقنية الذهنية في الفنون (م5 ص42) " لأن الخبرة الجمالية مظهر لحياة الحضارة ..وهي وسيلة لترقية تطورها …" (م14 ص 547) وأن القيم الجمالية شملت معظم النماذج الفنية الإبداعية عبر عناصر التكوين الجمالي كالتماثل والتناظر والإنشاء المتوازن بتوزيع الكتل وتوظيفها في الموضوعات الدرامية الأسطورية (م21 ص29) وبرزت الخطوط والأشكال الهندسية والتكرار بالخطوط المنحنية والوصول إلى الواقعية في النسب ووشمت بعض وجوه التماثيل النسائية لغاية رمزية وجمالية عن طريق التقنية في العمل كالضغط على الطين وعمل أشكالاً مدورة أو مثلثة ، وتجلى ظهور الطابع الجمالي عبر تنظيم العناصر الجمالية (م29 ص366) واستشرفت الجمالية للصور الميثولوجية في العديد من المنحوتات البارزة. و (الشكل 14) يوضح ختمان أسطوانيان يصوران مشاهد لحيوانات مفترسة وأشكال آدمية خيالية وأنهما يمتازان بجمالية تكوينية بفعل التوازن في الأشكال التي ملأت اللوحين دون أية مساحة فارغة بأسلوب درامي متطور فظهرت الرموز متداخلة مع بعضها دون الإقلال من القيمة الجمالية بتحليل يفوق التصور المعاصر (م22 ص 104،106) رغم جهل الفنان القديم بقواعد المنظور إلا أنه كان يرسم وينحت الأشجار والجبال بتناسق كما في (الشكل 15) (م5 ص29) وكما للخطوط والأشكال دلالات رمزية وجمالية كذلك للألوان دلالات ورموز قد تفوق الخط في وصفها عبر تماسك وبنية الإنسان وانفعالاته ، فالألوان لم تغب عن مشاهدات الإنسان القديم لاحتواء الطبيعة لها كما بالغت الألوان في تأثير مفعولها على حواس الإنسان وانفعالاته الذاتية ولو نسبياً من لون لأخر تبعاً للحالة النفسية وتأثيرها، لذا كان استخدام الإنسان لعدد يسير من الألوان كالأحمر والأخضر والأصفر وفقاً لما يمليه المستوى الذهني والنفسي من دلالات ومعان لهذه الألوان ذات المدلول المعروف سلفاً ، فالأحمر يشير إلى الصور الحياتية المتضادة كالحب والخطر والحياة والموت في حين أن السلامة والأمان لها دلالات لونية يعكسها الأخضر، أما الأصفر فهو نذير الشؤم والغيرة ، والتركيز على هذه الألوان لا يعني ترك بقية الألوان فالأبيض للنقاء والبنفسجي والأزرق للأمل وغيرها (م 33 ص 150،151) ، كما أن مصادر الألوان التي استخدمها الإنسان القديم تتمثل بالزئبق ووهج النار والزرنيخ الأصفر واللازورد وقد استخدمها في تلوين التماثيل وتلوين الكتابة والرسوم الجدارية وتزجيج الرسوم (م 19 ص 59،60) كما مثل السومريون اللون الذهبي رمزاً للإلهة (شمش) كما استخدم البابليون اللون الأحمر بشكل أقل (م 24 ص 275) .
المـصـــادر

1ـ القرآن الكريم .
2ـ الاعسم . د.باسم عبد الأمير . مفهوم الشكل في الخطاب المسرحي . مجلة الفنون القطرية.وزار التعليم العالي والبحث العلمي . العدد 1 . كانون الأول 2001 .
3ـ د. احمد سوسة . حضارة وداي الرافدين بين السومريين والساميين .دار الرشيد للنشر . وزارة الثقافة والأعلام . دار الحرية للطباعة . بغداد 1980 .
4ـ أرنولد هاوزر . الفن والمجتمع عبر التأريخ . ج1 . ترجمة : فؤاد زكريا . المؤسسة العربية للدراسات . ط2 . بيروت 1981 .
5ـ اندريه بارو . سومر فنونها وحضارتها . ترجمة وتعليق : د. عيسى سلمان . سليم طه التكريتي . سلسلة الكتب المترجمة . دار الحرية للطباعة . بغداد . 1980 .
6ـ البدري . هالة . الفنان والمرأة المتحف العراقي . مجلة الإذاعة والتلفزيون . وزارة الأعلام . الدار الوطنية للنشر والتوزيع . بغداد 1978.
7ـ برنارد مايرز . الفنون التشكيلية وكيف نتذوقها . ترجمة : د. سعد المنصور وفهد القاضي . مكتبة النهضة المصرية . القاهرة 1966 .
8ـ البستاني . فؤاد افرام . منجد الطلاب . دار المشرق . بيروت . ط 31 . السنة بلا .
9ـ البياتي . زينب كاظم صالح . الموروث الفني التشكيلي وإنعكاسه في الخزف العراقي المعاصر . رسالة ماجستير غير منشورة . جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة . قسم الفنون التشكيلية اختصاص الفخار . 2001 .
10ـ توماس مونرو . التطور في الفنون وبعض نظريات أخرى في تاريخ الثقافة . ج1 . ترجمة : محمد على أبو دره ، اسكندر جرجس ، عبدالعزيز توفيق جاويش مراجعة احمد نجيب هاشم . الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر . 1971
11ـ د. ثروت عكاشة . الفن العراقي القديم سومر وآشور وبابل . المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة . مطبعة الكتاب . بيروت . السنة بلا .
12ـ آل جنديل . د.نجم عبد حيدر . المثال والمثالية في الفن . المجلة القطرية للفنون . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي .بغداد 2001 .
13ـ الجندي . درويش . الرمزية في الأدب العربي . مكتبة النهضة . مصر 1958 .
14ـ جون ديوي . الفن خبرة . ترجمة : إبراهيم زكريا . مراجعة : د. زكي نجيب محفوظ . دار النهضة العربية . مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر . القاهرة . نيويورك 1963.
15ـ جون . ب . فيكيزي . الرمز والأسطورة. مجموعة مؤلفين . ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا . وزارة الأعلام . سلسلة الكتب المترجمة.دار الحرية للطباعة . بغداد 1973.
16ـ جيروم ستولنتيز . النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية . ترجمة : د. فؤاد زكريا . ط2 . الهيئة المصرية العامة 1981
17ـ الرازي .محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر . مختار الصحاح . دار الكتاب العربي . بيروت 1979 .
18ـ راضي حكيم . فلسفة الفن عند سوزان لانكر . دار الشؤون الثقافية العامة . مطابع دار الشؤون العراقية العامة . بغداد 1986 .
19ـ الربيعي . عبد الجبار حميدي خميس . موجز تاريخ وتقنيات الفنون . ط1 . دار البشير . مطابع الدار . الأردن 1998
20ـ زهير صاحب . الرسوم الجدارية المصرية . دراسة تحليلية المجلة القطرية للفنون . وزارة التعليم العالي والبحث العلمي . بغداد 2001 .
21ـ آل سعيد. شاكر حسن . الأصول الحضارية والجمالية للخط العربي . دار الشؤون الثقافية العامة . مطابع دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1988 .
22ـ سيتون لويد . فن الشرق الأدنى القديم . ترجمة : محمد درويش . دار المأمون للترجمة والنشر . دار الحرية للطباعة بغداد 1988 .
23ـ د.شاكر عبد الحميد . العملية الإبداعية في فن التصوير . المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب .سلسلة عالم المعرفة 109 . مطابع الرسالة . الكويت 1987 .
24ـ الصراف . عباس . آفاق النقد التشكيلي . دار الرشيد للنشر . دار الحرية للطباعة . بغداد 1979 .
25ـ صموئيل كرايمر . من الواح سومر . ترجمة : طه باقر . مراجعة : د.احمد فخري . مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر .السنة بلا .
26ـ الطباطبائي .العلامة . مختصر تفسير الميزان . أعداد كمال مصطفى شاكر .
27ـ الطعان . د. عبد الرضا . أشكالية تأثير الفكر العراقي القديم في الفكر الأغريقي . دوريات آفاق عربية . العدد 2. السنة 2 . مايس 1985 .
28ـ طه باقر . مقدمة في تاريخ الحضارات . الوجيز في حضارة وادي الرافدين . ط /2 . دار البيان للنشر . بغداد 1973 .
29ـ عادل ناجي . الأختام الأسطوانية في عصر فجر السلالات حضارة العراق . ج4 . تأليف نخبة من الباحثين . دار الحرية للطباعة . بغداد 1985 .
30ـ عاصم عبد الأمير . الموروث الشعبي في الفن العراقي الحديث . آفاق عربية . العدد 1 . كانون 2 . السنة 14 . مطابع دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1989 .
31ـ د.عامر سليمان . أحمد مالك الفتيان . محاضرات في التاريخ القديم . وزارة التعليم العالي والبحث العملي . مطابع جامعة الموصل 1978 .
32ـ فوزي رشيد . تموز في الفن العراقي القديم . مجلة الرواق . وزارة الثقافة والفنون . العدد3 . تموز ، آب . مؤسسة رمزي للطباعة 1978 .
33 ـ ـــــــــــــــــــ . الألوان ودلالاتها . آفاق عربية . العدد 11. ت2 . السنة 16 . 1991 .
34ـ كلود ليفي شتراوس . مقالات في الأناسة . أختارها ونقلها للعربية د. حسن قبيسي . سلسلة الفكر المعاصر . دار التنوير للطباعة والنشر . ط 1 . لبنان 1983 .
35ـ الهلالي . محمد مصطفى . الجفر (الشفرة) والرسائل السرية عند المسلمين . مجلة الفيصل . العدد 123 . السنة 11 أيار دار . الفيصل للطباعة 1987 .
36ـ هنري فرانكفورت وآخرون . ما قبل الفلسفة . الإنسان في مغامراته الفكرية الأولى . ج1 . ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ط 2 . بيروت 1980 .
37ـ هيجل . الفن الرمزي . ترجمة : جورج طرابيشي . دار الطليعة للطباعة والنشر . بيروت . آذار 1979 .
38ـ يوسف خياط . معجم المصطلحات العلمية والفنية . دار لسان العرب .المطبعة العربية 1974 .

الموروث الشعبي في الفن التشكيلي لدول مجلس التعاون الخليجي

ملخص البحث

إن دراسة الخطاب التشكيلي لدول مجلس التعاون الخليجي وكيفية تعامله مع الموروث الشعبي تكشف عن حالة من الضغط البصري يؤطره المنجز التشكيلي بصيغ جمالية . تعد وثيقة صادقة للعديد من الظواهر التي غيبت بعضها جوانب المدنية والمعاصرة ، وان كانت المعاصرة تزداد غنىً بهذه الظواهر المجسدة كخطاب تشكيلي إبداعي أنجزها فنانون تشربوا بواقع تسوده الآلفة والطمأنينة بفعل تمازج النسيج الاجتماعي واعتدال التوازن الاقتصادي ، لذا كانت وما زالت القيم المتأصلة في المجتمع الخليجي هي ذاتها وان غزتها المدنية من أوسع الأبواب وبكل صنوفها، ولغرض الدراسة الموضوعية أشتمل البحث أربعة فصول. تضمن الأول الإطار العام للبحث محدداً فيه المشكلة والتساؤلات التي أسفرت عنها ثم الأهمية وآلية تحديدها ، وحددت أهداف البحث من خلال استشراف القيم الفكرية والجمالية في تحليل المنجز بمرجعياته الفكرية والتقنية عبر تقصي الموروث الشعبي لدول مجلس التعاون الخليجي في المنجز التشكيلي المعاصر .
وقد اقتصرت حدود البحث على ثلاث من دول المجلس ما بين الخمسينيات حتى نهاية القرن العشرين .
أما الفصل الثاني. الإطار النظري تطرق الباحث الى مفهوم الموروث الشعبي ضمن المبحث الأول أما المبحث الثاني فتطرق الباحث إلى الفن التشكيلي في دول المجلس على وفق الأسس والمعطيات وارتكازه الى المحيط بوصفه عملية ضاغطة في الخطاب الجمالي الخليجي .
بينما تضمن الفصل الثالث إجراءات البحث والمنهج المستخدم ومجتمع البحث وعينته وأداة تحليل العينة والية التحليل التي اقتصرت على عدد عينات البحث البالغة ( 7 ) توزعت بعدد ( 3 ) عينات من دولة الكويت وعينتان لكل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين .
أما الفصل الرابع تضمن نتائج البحث والاستنتاجات وهي كالآتي :-
1- إن التشكيل الخليجي ارتكز الى قيم فكرية تكمن في كينونة المجتمع .
2- انتهج الفنان الخليجي تقنيات غربية معاصرة بفعل المشارب الأكاديمية التي
تلقاها .
3- المزاوجة بين التقنيات المعاصرة والثيمات الواقعية والموتيفات الشكلية
والأساطير المحلية لتؤول الى قيم تشكيلية جمالية متفردة .




ثبت المحتويات


ملخص البحث …………………………………………………
الفصل الأول : الإطار العام للبحث 1
مشكلة البحث والحاجة إليه ………………………...1 – 2
أهمية البحث ……………………………………..2 _ 3
حدود البحث ……………………………………...3
الفصل الثاني : الإطار النظري 4 _ 10
المبحث الأول : مفهوم الموروث الشعبي …………….4 _ 7
المبحث الثاني : الفن التشكيلي في دول مجلس التعاون
الخليجي ………………………… 7 _ 10
الفصل الثالث : إجراءات البحث 11 _ 18
منهج البحث ……………………………………11
أداة البحث ……………………………………...11
مجتمع البحث ……………………………………11
عينة البحث ……………………………………..11
أسباب إختيار العينة ……………………………….11
تحليل العينات ……………………………… 12 _ 16
الفصل الرابع : النتائج والاستنتاجات 17 _ 18


المصادر 19 _ 20
النماذج ( عينة البحث ) 21 _ 24










الفصل الأول
الإطار العام للبحث
مشكلة البحث والحاجة إليه :

إن الإنجازات التي خلفتها الشعوب المتجذرة عبر العصور كبير جدا ، يتداول قيمها ابناء المجتمع في الوقت الحاضر بوصفها مفردات حضارية موروثة تداولاً لا ينحصر في طبقة معينة ، والتعامل معه يتم بطرق عدة عبر الفنون والآداب ، فالموروث الشعبي لأي مجتمع كبيراً كان أم صغيراً يمثل الأساس الذي يرتكز إليه المجتمع المعاصر في النهوض والنمو ، ومنه يمكن دراسة القيم الثقافية والإبداعية لأي مجتمع بوصفها منتجات إنسانية فضلا عن قيمتها الوطنية .
ولقد أُثريت دول مجلس التعاون بالقيم التراثية المتراكبة والمتراكمة بفعل الجغرافية إذ اتصل تأريخها بأخصب المجتمعات حضارة وتراثا تلاقحت فيما بينها مؤطرة لمجتمع الخليج والجزيرة العربية بعدا حضاريا متميزا يعد نضحًا للحضارات التي اتصلت به وقد تفاعلت مع البيئة المحلية ليتجسد منها الموروث الشعبي مادة غنية تثري الباحثين بالاستزادة في معرفة ماهية المفردات الحياتية للمجتمع.كان نصيب منطقة دول المجلس العديد من الموروثات الشعبية جراء تعدد المصادر المولدة لهذه الموروثات التي تتصل بطبيعة المجتمع كالحرف والمهن فضلا عن الأساطير القديمة والحكايات الشعبية ذات البعد الواقعي والخيالي تبرزها روايات تغذي المبدعين في البحث عن ماهيتها الاجتماعية ، ويعد المجتمع المعاصر في دول مجلس التعاون اكثر اتصالاً بالموروث مع تنامي الحالة الاجتماعية والاقتصادية لان الموروث يمثل هوية الفرد وهوية مجتمعه ، لذا يندر تجاوز الفرد الخليجي لعناصر الموروث ، فإقتناء الموروثات الحرفية من قبل المجتمع الخليجي تتنامى فضلاً عن مزاولته للطقوس الفلكلورية من موسيقى وغناء ورقص وشعر ، أما اتصال أبنائه والأماكن التراثية لا تنقطع لان الإنسان في الخليج مهما تنامى اقتصادياً واجتماعياً لا نراه ينسلخ عما توارثه عن أجداده ، لإيمانه بهم واعتزازه الكبير بالأجداد ، فيرى وجوده في اتصاله بالموروث المحلي .
والفنان التشكيلي عنصر فاعل سعى الى قراءة المورث وتسجيله ضمن تقنيات وأساليب نهجية معاصرة وفقا الى المشارب التي نهل منها تقنيته ورؤيته للفن إذ كانت خطاباته التشكيلية خير مستلهم وموثق لتركيبة المجتمع المتوارثة بكل دلالاته العميقة أسطورية كانت أم فلكلورية ، لإيمانه المطلق بالتقاء المبدع والمادة التراثية لان " التراث هو تراكم حياتي وطاقة روحية جياشة ، زمن محتقن بالدلالات والغنى والتوتر …والتراث معين مهم من الناحية الجمالية والفنية واستلهامه يؤكد وحدة التجربة الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل ".(م1ص34 )
إن مشكلة البحث ذات صلة بالمجتمع وعلاقته بالتشكيل الخليجي يتكشف من خلالها مدى قابلية الفنان في تسجيل الموروث الشعبي وماهيته في تعزيز صلة الفرد بمجتمعه وتراثه .

أهمية البحث :

وفقاً لمشكلة البحث تتحدد أهمية البحث في تعريف المتلقي بالقيم التشكيلية المعاصرة لفناني دول مجلس التعاون الخليجي واتجاهاتهم التقنية والنهجية في رصد الموروث الشعبي المحلي .

أهداف البحث :

تتحدد أهداف البحث للتوصل الى ما يأتي :-
1- استشراف القيم الفكرية والجمالية في الموروث الشعبي الخليجي .
2- تحليل المنجز التشكيلي بمرجعياته الفكرية والتقنية .
3- تقصي الموروث الشعبي في المنجز التشكيلي المعاصر .


حدود البحث :

حدد البحث بـ
أ- الحدود المكانية : اقتصر على ثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي وهي
دولة الكويت والمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين .
ب- الحدود الزمانية : شملت الفترة المحصورة ما بين الخمسينيات من القرن
العشرين وحتى نهايته .







الفصل الثاني
الإطار النظــري

المبحث الأول : مفهوم الموروث الشعبي
الموروث الشعبي قيم إنسانية تعامل معها الإنسان منذ القدم عن طريق الممارسات الحياتية والطقوس الدينية ، وقد انتقلت إلى الأجيال اللاحقة عبر آليات عديدة، استطاعت الفنون أن تفعّلها بعمق على وفق أساليب ومناهج مختلفة في المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل والحركات الراقصة . هذا التفعيل تولّد من قناعات مرتكزة في ذهنية الفنان .أن الموروث يعد بنية المجتمع وهيكليته الأساسية اجتماعياً وتاريخياً وسياسياً وفلسفياً وخلقياً ،كما لاتحيد السلوكيات الموروثة عن كونها جهد إبداعي حفّز الفنان المعاصر من استقصائه محاولاً تجديد رؤيته الإبداعية وصولاً إلى الأصالة ، وإن كانت أصالة الموروث متأتية من تجاوزه الأنظمة السياقية الزمنية وديمومته تعد أحد مرتكزاته في الأصالة .
لذا ظهرت الدراسات التي تعنى بالموروث منذ زمن بعيد حينما فُعّلت العلوم التي تتقصى العلاقات والسلوكيات الإنسانية والتي تبحث خصائص الإنسان وارتباطاته مع ما يحيطه من كائنات ، وقد ارتبط مصطلح الموروث ومفردة (الفولكلور ) عام 1877إبان تأسيس جمعية الفولكلور الإنكليزية في لندن ، وكان علم الاجتماعSOCIOLOGY ) ) وعلم الإنسان (INTHROBOLOGY ) من العلوم التي عضّدت دراسات الموروث وعدته علماً أكاديمياً عام 1955 في المؤتمر التخصصي بوصفه القيم المتناقلة شفاها إذ تعتمد هذه المفردة على تقصي ودراسة العادات المأثورة والمعتقدات التي تسمى بالآثار الشعبية القديمة أو بالموروث الشعبي (م 2 ص 15).
وقد حظي الموروث الشعبي بتعاريف معاصرة عدة لم تكن قاصرة على الآثاريين ومتتبعيه حصراً . إنما شمل الأدباء والفلاسفة والفنانين وتجاوز ذلك إلى أن عرفه العلماء النظريين والتطبيقيين بما يوافق تتبعهم للأصول العلمية التي درسها وتطرق لها السلف ، لذا فقد عُرّف الموروث أنه "تسجيل أمين لبنية البيئة التي أنتجته وعليه ترتسم خصائصها أصالة وأعمقها تمثيلاً لمواصفات تلك البيئة " (م 3 ص 7) .
فتعريف الموروث الاصطلاحي يتحدد بما تداوله المجتمع القديم في أزمنة متباعدة وقيمته تتجلى باستمراريته في التداول من قبل المجتمعات اللاحقة ، وتقسم طرق انتقال الموروث الشعبي إلى نوعين ، أما بالكتابة والتدوين والبحوث المنهجية أو النقل بالتداول أو شفاهاً عن طريق الرواية والحكاية الشعبية والأمثال والشعر والغناء وغيرها(م 4 ص 9) .
إن التداخل مابين مصطلحي الموروث الشعبي والفولكلور متأتياً من تشابه السلوكيات الثقافية والطقوس والمعتقدات الاجتماعية التي تناقل من جيل إلى آخر ذلك أن المصطلحان يدخلان ضمن الدراسات الأنثروبولوجية أو ما يسمى بدراسات علم الإنسان الذي يتقصى خبرات الإنسان الإبداعية في الفن وغيرها من الآثار والطقوس والأعراف ، كما إن تداخل المصطلحان وتأريخ الفكر الإنساني ناتج بفعل التأثر والتأثير مع العلوم الأخرى لأن النتاج الإنساني موضوع دراستنا يحتم دراسة خصائص الإنسان السلوكية (م 5 ص 172) .
من هنا تطلبت دراسة الموروث الشعبي للمجتمع دراسة للجوانب الفكرية والفلسفية وانعكاسه في النشاط التشكيلي من خلال توظيف الفنان لمفردات الموروث الشعبي سلوكياً وتقنياً أو رمزياً في منجزه الفني المعاصر عبر تقنيات واتجاهات تشكيلية متنوعة مابين الواقعية والأكاديمية والانطباعية والتعبيرية والسريالية والتكعيبية والتجريدية.
إن تعامل الفنان التشكيلي مع الموروث الشعبي لم يكن تسجيلاً أو نقلاً للواقع ورموزه ذات الاتصال وبنية السلوكيات الاجتماعية والعقائدية والاقتصادية للمجتمع القديم ، إنما هو انتماء وتواصل تفرضه هيكلية المجتمع بروحية وهاجس متواصل مع مفردات المجتمع المتجذر ، لذا فإن توظيف الفنان التشكيلي للموروث الشعبي يحمل مرجعيات فكرية وفلسفية أعمق من بعض تصورات التحليل لأنها تولدت مع ولادة المجتمع وتعايشت معه بقسرية فرضتها البنية السلوكية والحياتية للمجتمع ، ويعد هذا التعايش أشد قسرية في منطقة الخليج العربي لأن الموروثات الشعبية هي " العناصر السلوكية والحركية والكلامية والضمنية التي يؤلفها مجتمع من المجتمعات "(م 6 ص 21) .
هذه العناصر المتنوعة التي يؤطرها الموروث الشعبي ذات تأثير مباشر في المجتمع الخليجي المعاصر الذي لم ينقطع عن قراءة موروثه الشعبي لالتزامه السلوكي والأخلاقي بتأريخه وجذوره الطاعنة في التأصيل لاسيما أن "الفن إبداعاً، يعبر عن جماع الفكر والعقيدة والحس والذوق "(م 7 ص 22)، لذا كانت النتاجات التشكيلية في دول مجلس التعاون الخليجي وإن كانت معاصرة فهي إطارات فكرية وتسجيلية إستكمالية للموروث ، متلازمة معه غير منفصلة لأن المعاصرة في قراءة الموروث تتعامل معه على أساس من الفارق الزمني الكبير في حين إن تكامل رؤية الفنان التشكيلي الخليجي في تحليل الموروث الشعبي يعد استكمالا للموروث ومعاصرته .



المبحث الثاني : الفن التشكيلي في دول مجلس التعاون الخليجي :

لا يمكن تصنيف بنية مجتمع دول مجلس التعاون الخليجي لتماسك مكوناته الاجتماعية فيما بينها ، مما يتعذر حسابه على وفق أزمنة متغايرة تفترضها هزة انتقالية تسبب افتراقه اجتماعياً وسلوكياً ، ولعل قراءة أهم تحول في الخليج تمثل باكتشاف النفط كدافع اقتصادي يحتم قياس كل المتغيرات الاجتماعية تبعا له .
ولدراسة ظواهر وإفرازات المجتمع الخليجي قسم الباحثون هيكلية المجتمع الى ما قبل النفط وما بعده تقسيماً لا يفترض فيه حصول هوة ما بين المجتمعين لا سيما اجتماعياً وسلوكياً ، فأنها لم تزل بحيويتها في استمرار تدفق وصميمية الإنسان الخليجي في التعامل مع مفردات ما قبل النفط بذات الروحية ( أخلاقية ) فنرى المجتمع المعاصر باستقراره الاقتصادي والاجتماعي ينقاد باندفاع شديد وحيوي نحو الموروث اعتزازاً به وإيماناً مطلقا بالأصالة المتولدة من رواسب متجذرة في صلب المجتمع .
إن المضامين الفكرية للموروث الشعبي في دول مجلس التعاون متشعبة على وفق مبدأ التأثر والتأثير والانعكاس فيه ، لذا يعزى تعدد الاتجاهات في الموروث الشعبي الى المناهل التي وجد فيها وعليها ، فمنها الاجتماعية ذات المساس والحكايات الفلكلورية والأساطير التي تَداولها وزاولها أفراد المجتمع ومازال فضلا عن الأعراف والتقاليد المستقدمة من الموروث العربي الإسلامي ، كما انعكس الموروث المعماري ( البيوت القديمة ) ليبقى حاضراً في ذهنية المجتمع المعاصر وجداناً حياً ، أما الحرف والمهن التي امتهنها الخليجي فقد اتصلت والحالة الاقتصادية كالصيد والغوص في البحر والعديد من المفردات التي لم تزل ماثلة أمام المجتمع ، وقد هيأت للفن لا سيما التشكيلي الديمومة في الارتقاء والإبداع المتأصل عبر تسجيل التراث واعادته روحاً وشكلاً لانه الأساس في الانطلاق الى رحاب العالمية .
إن إعادة تسجيل الفنان الخليجي للتراث ليس استذكاراً متواصلاً غايته الديمومة في العطاء ، بل هو تعبير وجداني ورؤية محفزة في الثقافة والفن بقيمتهما السامية لأن معطيات التواصل تمثل إضافة روحية ووجدانية من خلال سبر أغوار التاريخ وإدراك محتواه، فتتكشف الأصالة من تحفيزِ لقدرات الفنان الذهنية الذاتية تعززها قدراته وتجاربه التقنية فيكون الطرح الفني مؤطراً بجوانب عدة منها خزين تراكم في وجدان الفنان عبر قراءته للتاريخ بعقلانية ومنها دراسته التقنية تدعمه رؤيته لكيفية الطرح وشكليته ، ينقسم منها المنجز الى محاور عدة منها النقل الحرفي المحاكاتي أو الاستفادة من الوقائع المحيطة تقنياً وتكوينياً فتكون المزاوجة غنية بينما يكون الطرح الآخر مشوباً بالتشويه لقصور في الفهم والإمكانيات التقنية.
وإزاء ذلك يظهر محتوى الاتصال بين الفنان والمحيط بوصفه كينونة لا يمكن إغفالها فتظهر حقيقة تواصل الفن التشكيلي والموروث الشعبي الخليجي.
منذ الخمسينات حتى نهاية القرن العشرين كفترة حاول الباحث التصدي لها في تمييز الفن التشكيلي المعاصر في دول مجلس التعاون بكل اتجاهات وتجارب فنانيه، فيرى السعي والجدة في الاغتراف من المكنون الشعبي مبيناً مدى التأثير البيئي وقابليته في الضغط على الخطاب التشكيلي، فيرتقي منها التشكيل في الروح المعاصرة والاشتغال معها في حدود التأصيل كونها إضافة مبدعة الى روح التراث، كما ان المفردات البصرية هي إنجازات فنية تستمد رؤيتها من المحيط بوعي ذاتي للفنان لان المحيط هو القادر على إعطائها قابلية النمو،وان العمل الفني تجربة جمالية مستمدة بتأثيرها من مقومات الواقع والمجتمع كبديهة طالما أكد عليها التشكيلي الملتزم بمقومات ليست دخيلة حتى أصبحت معالجاته التقنية صياغة إبداعية أفاض عليها الموروث المحلي بعداً جمالياً و فكرياً اكثر تصديقاً.
في الكويت منذ الخمسينات التي تميزت بتجارب تشكيلية ليست كبيرة أهمها المعرض الذي أقيم أثناء انعقاد مؤتمر الأدباء العرب 1958 مروراً بإنشاء المرسم الحر مطلع الستينات ليتوج التشكيل المعاصر في الكويت عام 1978 بالمعرض الذي أقامته الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية التي تأسست
عام 1967 ، وقد افرز معرض 1978 رؤى تشكيلية استنهضت قيمه الجمالية والفكرية باستشراف الموروث المحلي والخليجي والعربي الإسلامي، فجسدت المعروضات الفنية مجمل الأعراف والتقاليد والحكايات والأساطير والحرف الشعبية ذات النفس الشعبي الملتصق وجدانياً بالفنان والمجتمع(م8 ص98).
ولا يختلف عنها في المملكة العربية السعودية إذ ارتقى فيها الفن التشكيلي الى مرحلة متميزة تجسيداً لصلة الفنان بمجتمعه ومحيطه فأستخلص الفنان تجربته على وفق رؤيته للتراث الشعبي لمنطقة الخليج والجزيرة على حد سواء حتى تميز العقد ما بين 1395-1405 هـ (1975-1985م) بإنتاج خطابات تشكيلية التصقت بالتراث كلياً بتقنيات واتجاهات متعددة إذ أن "المنابع التي يستقي منها الفنان السعودي رموزه في التعبير …تميل الى الاستفادة من التراث الشعبي السعودي"(م9ص169)، كما لا يمكن قراءة عمل تشكيلي يستمد رؤيته بعيداً عن الموروث الحضاري والشعبي في البحرين مستنيراً بحضارة دلمون وآثارها، فكان الموروث الخليجي حافزاً مشعاً للفنان في البحرين ، وان لـ(جماعة الفن المعاصر) الأثر البالغ قي هذا التوجه العارم نحو استيقاظ روح الموروث الخليجي والعربي.كذلك تحقق هذا التلاحم ما بين الموروث والتشكيل القَطَري من خلال معالجة الموضوعات المتعلقة بالبحر وفن صناعة السفن الخشبية والبناء المعماري الشعبي والزخارف والألوان وفن صناعة البسط والسجاد وغيرها من الحرف الشعبية. أما في الإمارات و سلطنة عمان لا يمكن للفن التشكيلي إلا أن يكون قريباً من هذا التوجه حيال الموروث الشعبي بفعل تقارب الأسس الاجتماعية في منطقة الخليج، بل ان دراسة أي مجتمع في المنطقة بالضرورة هي عينة صادقة في تمثيل المجتمع الكلي. لأن الخليج كمجتمع لا يمكن تجزئته بحال يتيسر للباحث من دراسته واستخلاص النتائج للأسباب الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية المتماثلة، بيد ان النهج الذي ينتهجه الفنان يتفرد عن غيره في البلد الواحد بسبب المرجعية الأكثر ذاتية للبلد وللفنان في دراسته الأكاديمية للتجارب التشكيلية المعاصرة في العالم واختلاف مشاربهم الذاتية ورؤاهم .


الفصل الثالث
إجراءات البحث

*منهج البحث : للتوصل إلى أهداف البحث اعتمد الباحث المنهج الوصفي من خلال تحليل العينات.

*أداة البحث : سعى الباحث في استخدام افضل أداة تناسب وبحثه وهي (الملاحظة) في تحليل الأعمال عينة البحث .

*مجتمع البحث : شمل الأعمال التشكيلية المصورة لفناني دول مجلس التعاون الخليجي التي حاول الباحث تقصيها بوصفها ذات مساس والقيم التراثية الشعبية

*عينة البحث :الأعمال التشكيلية التي اختيرت قصديا.البالغة (7)أعمال موزعة لثلاثة أعمال من دولة الكويت وعملان لكل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين .

أسباب اختيار العينة .
وقد اختيرت على وفق الضوابط الآتية :-
1- التنوع في الاتجاه التقني .
2- استبعاد الأعمال المتكررة.
3- الأعمال ذات المساس والحالة الاجتماعية لمجتمع دول المجلس.
4- التنوع في اختصاصات الفنانين.






تحليل العينات:
عينة(1) :نادر عبد الحميد / 1956 / الكويت (الختمة)
صور الفنان موضوعة ذات مساس بالمجتمع المسلم في عملية تحفيظ القرآن الكريم للأولاد في سن مبكرة، وحتى يكتمل حفظه من أحدهم تعم الفرحة والأعياد عموم الأهالي.لذا جسد الفنان اللحظة تجسيداً واقعياً محاكاتياً مرتكزاً الى الرؤى التكوينية بمعالجة السطح التصويري في اللون (الاوكر) المستلهم من الواقع المحلي والبيئة الشعبية (الرمال).كما يتشكل البعد المعماري والوحدات الزخرفية للبيئة فضلاً عن تجسيد الملامح والأزياء الشعبية الخليجية.
كما اعتمد الفنان في توزيع مفردات السطح التصويري الى مركزية العمل ( الطفل بيده القرآن الكريم في المركز).
إجمالاً يستعرض الفنان السلوك الاجتماعي والبعد المعماري الشعبي مجسدا" المحلة في معظم المفردات,ليبقى العمل الفني وثيقة مسجلة لسلوك اجتماعي تضاءل وجوده في المجتمع العربي في الوقت الحاضر.


عينة (2) : سامي محمد / 1943 / الكويت (فتاة كويتية)
يتفرد الفنان في منحوتاته ذات البعد الجمالي والتعبيري في استكشاف كوامن الإنسان وإرهاصاته وهو العارف بحيوية مادته المستخدمة وقابليته في تطويعها وفق ما يرتئي ،وقد اقتفى الفنان في معظم أعماله النحتية تقنية جياكومتي عبر استطالات شخوصه ونحافتها رغم واقعيتها، وفي عمله( فتاة كويتية) جسد بواقعية أكاديمية مفردة محلية لم تزل متواجدة في مجتمع الخليج بهيئة حلة ترتديها النساء في الأفراح والمناسبات (الهاشمي) ، وقد أشرك تقنية التصديف استذكاراً للبحر ,فضلاً عن اتصال اللباس الهاشمي تقنياً وشبكة الصيد(السلية) .
وقد تجسدت المزاوجة التقنية المعاصرة والدراسة الأكاديمية للعمل ليرتقي منها الى حدود التأصيل والإبداع مما يشير الى ان الفنان يعد من قمم النحت المعاصر في الوطن العربي .


عينة (3) يوسف القطامي 1950 / الكويت / (لعبة شعبية)
ينقلنا في منحوتته الى روح الموروث الشعبي الخليجي باستشفاف مفرداته بتركيبة ورؤية معاصرة موظفاً الشكل باستحضار من الموروث الرافديني السومري عبر تهميش الملامح وتجاوزها للوجوه الآدمية لا سيما المنحوتات المعبودة(م10ص25-26)، فأعاد صياغة الأشكال ليهذبها على وفق استيعاب الجوانب الشعبية الخليجية فيشير العمل الفني الى تسجيل مفردة سلوكية محلية مارسها المجتمع كنوع من التسلية الجماعية معتمداً مبدأ التناظر والتماثل والحركة المتولدة من دورانية المنجز بكليته يدعمه التوازن والتكرار وصولاً الى الوحدة التكوينية الجمالية.(م11ص88).



عينة (4) محمد السليم / السعودية (موضوع)
إن قراءة العمل تنقلنا إلى الأجواء اللونية الخليجية المنسجمة (الهارموني) ليجسد حالة المجتمع الخليجي قبل ظهور النفط إذ المصاعب الاقتصادية وقسوة العيش، فيستعرض لنا امرأة تفترش الطريق للرزق بيدها طفلها الرضيع.كما نقل البعد المعماري الخليجي ببساطته وبدائيته (بيوت الطين).
أما التقنية التي اعتمدها الفنان فهي توليفية ما بين ( انطباعية سيزان أو سورا ) في ضربات الفرشاة التي مهدت للتكعيبية وتعبيرية (ماتيس) باستخدام اللون الأسود بمعية الألوان الصريحة وثالثهما تعبيرية ما بعد (ماتيس) مجسداً فيها التعبيرية ضمن منطقة الاختزال والتجريد فبرز العمل تحفة لا يمكن للتشكيل العربي تجاوزها.



عينة (5) محمد سيام 1374 هـ/السعودية (بيوت)
منجز بالألوان الزيتية للفنان السعودي محمد سيام تحت عنوان (بيوت) ينتمي إلى المدرسة السريالية كتقنية تبناها الفنان فضلاً عن التصميمية المعمارية التي سعى إليها.
يتأسس المنجز من كتل معمارية تقترب من القيم التراثية الشعبية في الخليج وأحاطتها بالزخرف (المربعات والدوائر) والنوافذ المستطيلة ، كما لجأ الفنان الى التضادات اللونية ما بين الكتل والخلفية ( Back Ground ) بافتراضات الحلم، كما يقترب السطح التصويري من تقنية التلصيق (كولاج) لا سيما في منطقة البناء المعماري ليحيل المتلقي الى المدرسة التكعيبية .
إن المفردات الزخرفية المستخدمة يمكن تأويلها الى بساط مزركش بموتيفات شعبية ذات ألوان براقة كنوع من التعويض اللوني الذي يفتقده الإنسان الخليجي المتشرب بألوان الرمال والصحراء والبحر (الاوكرات والالوان الباردة) لذا لجأ الى الألوان الحارة (الأحمر والأصفر) بمعية الألوان المعتادة للإنسان الخليجي مما يعطي للمنجز صفة التوازن البنائي جمالياً.
إن العمل يمثل قيمة تشكيلية استنهضت الموروث الشعبي الخليجي بتقنية مزدوجة تنامت عند الفنان عبر دراسته للفن الأوربي المعاصر . وهذه قيمة طالما لجأ إليها الفنان العربي بصورة عامة والخليجي بخاصة لينبري منها منجزه بتفرد متميز يرتقي صفة الأصالة والإبداع.



عينة (6) راشد العريفي / البحرين (موضوع)
ينزع إلى تآلف الرسومات الطفولية الأقرب الى الفطرية و استشراف الموروث و (الموتيفات) الشعبية مع العناصر الواقعية الإسلامية بزخرفيتها, وهو اتجاه الفنان الى قراءة التاريخ وحضارة (دلمون) والرسوم الجدارية ذات الاتصال بالرسوم الجدارية الرافدينية.
وقد تصرف بالسطح التصويري كفضاء تسبح فيه الأشكال مولداً أشكالاً زخرفية كما اتجه الى التبسيط والاختزال بتقصي منهج غربي(بول كليه وخوان ميرو وحتى بيكاسو) . كما يمكن تصور الزخرفية على شكل بساط مزركش فضلاً عن الهندسية كتوجه حروفي تشكيلي, ومن خلال الربط ما بين المفردات في المعنى
(منائر، قباب، أهلة) يمكن توصيف الشكل برمته ليمثل شخصاً متعبداً رافعاً يديه وهو راكع.
إن العمل يحمل بين تلافيفه مجمل التقنيات العربية الإسلامية في امتلاء السطح بالزخرفية وغياب المنظور وإهمال التشريح .
فان المزاوجة التي سعى إليها الفنان مكنت المتلقي من توصيف العمل بوصفه عملاً إبداعياً من خلال استنهاضه القيم الجمالية الموروثة والتقنية التي انتهجها عبر دراسته ورؤيته .



عينة (7) عبد الكريم البوسطة / البحرين (فتاتان)
يعرض الفنان عمله في شكل فتاتين بنهج تعبيري اقرب الى الوحشية مؤكداً على قيمة اللون الأسود بتحديد المساحات على وفق تقنية (ماتيس) المنعكسة على أعمال العديد من الفنانين العرب، وبحكم مرجعية الفنان الى حضارة كبيرة (دلمون) واتصالها والحضارة الرافدينية السومرية.فقد وظف الفنان ملامح الوجهين على وفق مرجعيته الحضارية والتاريخية كقيم جمالية ما زالت منبعاً يثري التشكيليين في الاغتراف منه.










الفصل الرابع
النتائج والاستنتاجات


النتائج ومناقشتها
1. أن التشكيل الخليجي ارتكز الى قيم فكرية بوصفها قيما تكمن في كينونة المجتمع. سعى الفنان الخليجي من تفعيلها على وفق تقنياته الى خطابات جمالية وتوثيقية تمثل علامات ذات خصوصية وتفرد في التشكيل الخليجي .
2. بفعل المشارب الغربية للفنان الخليجي ، انتهج تقنيات غربية معاصرة لمضامين اجتماعية محلية ، مخلفا توليفة جمالية ما بين التقنية والموضوع ، حتى الأعمال ذات النهج التجريدي والأشد حداثة فإنها لا تبتعد عن تجسيدها للواقعية الخليجية .
3. توصل الفنان الخليجي الى تقنيات معاصرة على وفق (الثيمات ) الواقعية و(الموتيفات ) الشكلية والأساطير لتتحدد منها تقنيته الذاتية وتفرده في الإنجاز والتنفيذ، بل ان توصله الى هكذا تقنيات وان كانت مرجعيتها رؤيته المتحررة وموهبته المتقدة، إلا إنها لا تخلو من مرجعيتها في الموروث الشعبي بكل تنوعاته المتولدة في المجتمع الخليجي.
4. أستعرض الفنان الخليجي صور الواقع المحلي مقتفياً سلوكيات المجتمع الخليجي والعربي المسلم إذ عالج موضوعاته وما تحمل من معان اجتماعية وطقوس فلوكلورية محلية يزاولها أهالي المحلة (الفريج) بكل مستوياته الاقتصادية وإن اختلفت بعض الشيء.





الاستنتاجات

وخلاصة ما تم التوصل إليه واستنتاجه من الإطار النظري والتحليل لعينات البحث فأن الموروث الشعبي لدول مجلس التعاون الخليجي يشمل المجتمع برمته من خلال التعايش الآمن معه لانه نابع من كينونة الأرض والرمال والبحر والصيد والممارسات الشعبية الأخرى كالرقص والموسيقى، بل أن المجتمع لم يزل يحفز من التعامل والتقرب من الموروث الشعبي .
ولإدراك الفنان التشكيلي الخليجي بقيمة الموروث الشعبي كانت مراقبته له وتصديه كبيرة جداً لأنه يتعامل مع قيم لم تزل خالدة في المجتمع. وأن الخطاب التشكيلي كان بحق صورة حقيقية لمفردات تراثية قد اندثر بعضها لينقلها الى المجتمع المعاصر بجمالية وتفرد تمثل نضجاً في الرؤية البصرية للموروث ونضجاً في الخطاب التشكيلي في دول مجلس التعاون الخليجي العربي.






المصادر

المصادر حسب ورودها في متن البحث
1- عاصم فرمان صيوان البديري. المتحول في الفن العراقي الحديث. أطروحة دكتوراه غير منشورة. جامعة بغداد. كلية الفنون الجميلة 1999.
2- فوزي العنتيل . الفولكلور ماهو . دار المعارف . القاهرة 1965 .
3- لطفي الخوري . في علم التراث . الموسوعة الصغيرة . وزارة الثقافة والإعلام . بغداد 1979 .
4- عبد المجيد لطفي . التراث الشعبي هل هو شيء منعزل ؟ . مجلة التراث الشعبي . العددان 11 ، 12 . وزارة الثقافة والإعلام . دائرة الشؤون الثقافية العامة بغداد 1984 ة.
11/12 . وزارة الثقافة والإعلام . دائرة الشؤون الثقافية العامة 1984 .
5- د. نبيلة إبراهيم . الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق . دار المريخ للنشر . الرياض . 1985 .
6- صفاء الدين حسين جمعة التميمي . توظيف الأسطورة والحكاية الشعبية في المسرح العراقي المعاصر . رسالة ماجستير غير منشورة . كلية الفنون الجميلة . جامعة بغداد 1989 .
7- صفوت كمال . مدخل لدراسة الفولكلور الكويتي . شركة ذات السلاسل للطباعة والنشر ط3 . الكويت 1986 .
8- شوكت الربيعي. الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي 1885 –1985.دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986ز
9- سمير ظريف. الفن التشكيلي السعودي خلال عقد من الزمن. مجلة الفيصل العدد100 /السنة 9 / تموز (يوليو)/1985.
.10- طارق عبد الوهاب مظلوم. النحت في عصر فجر السلالات حتى العصر البابلي الحديث. حضارة العراق ج4. نخبة من الباحثين. دار الحرية للطباعة. بغداد 1985.
11- ناثان نوبلر. حوار الرؤية. مدخل الى تذوق الفن والتجربة الجمالية. ترجمة فخري خليل. دار المأمون للترجمة والنشر ط1 بغداد 1987.























عينة 1











عينة 2 عينة 3












عينة 4






































عينة 5

عينة 6






























عينة 7



نشر في مجلة الخليج العربي 2005

المشهد الحسيني وانعكاسه في الرسم العراقي المعاصر

ملخص البحث

أخذت واقعة كربلاء أهميتها بوصفها من الوقائع المؤثرة في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده ، فاستأثرت باهتمام المؤرخين والأدباء والفنانين ، فالأدباء صوروها شعراً ورواية كما صورها المسرحيون والتشكيليون في إنجازاتهم الفنية . إلا أن واقعة كربلاء سَمَت على الوقائع كلها لما أفرزته من نكوص أخلاقي في الجانب الآخر المتمثل بالجيش الأموي وقد استباح حرمة سيد الخلق الرسول محمد (ص) .
كما تمثل واقعة كربلاء إحدى التحولات التي شهدها المسلمون في الوقفة المقدسة للإمام الحسين ابن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام ) ، وقد عُدت درساً بليغاً للداعين إلى الحق وإلى القيم الإنسانية الرفيعة .
ضمن هذا التوجه أشتغل الفنان التشكيلي العراقي المعاصر في نسج أعماله الفنية عارفاً غزارة مادته . حصيلتها لوحات لها وقع في ذهنية المتلقي لما تبث من قيم فكرية جمالية وإبداعية .
وتأسيساً على ذلك أشتغل الباحث على آلية فيض المشهد الحسيني في الرسم العراقي المعاصر ضمن بحث من أربعة فصول وهي :
الفصل الأول ( الإطار العام للبحث ) عرض الباحث مشكلة البحث والحاجة إليه بافتراض أن الرسم العراقي المعاصر أشتغل في استشفاف الجوانب الجمالية والإنسانية لواقعة كربلاء متتبعاً بعض التساؤلات لمناقشتها ومجملها - ماهي القيم الفكرية والجمالية والاتجاهات التقنية التي يبثها المشهد الحسيني في اللوحة العراقية المعاصرة ؟ . ومن ثم شخص الباحث أهمية البحث وأهدافه ، كما حُدد البحث زمانياً ومكانياً. أما الفصل الثاني ( الإطار النظري ) فقد قسم إلى مبحثين الأول ، نبذة تاريخية لواقعة كربلاء في حين تضمن المبحث الثاني ، القيم الفكرية والمرجعية للمشهد الحسيني في تحفيز الفن التشكيلي العراقي المعاصر .
وفي الفصل الثالث تطرق الباحث إلى إجراءات البحث وهي المنهج المستخدم وأداة البحث ومجتمع البحث وعينة البحث وأسباب إختيار العينات ومن ثم تحليلها . أما الفصل الرابع ( النتائج وألإستنتاجات ) فقد خلص الباحث إلى النتائج الآتية :
1- معظم الأعمال صورت المشهد الحسيني بعد إنتهاء القتال بين المعسكرين . أي بعد مقتل الإمام الحسين وأصحابه عليهم السلام ، لذا فإنها افتقدت إلى تسجيل الحدث حال وقوعه فتباينت تقنيات الفنانين في تنفيذ منجزاتهم مابين التعبيرية والتجريد والرمزية دون الاقتراب من الواقعية أو التسجيلية .
2- إن قناعة الفنان التشكيلي المعاصر في العراق بإنسانية الموقف الحسيني وأخلاقياته تبثها الإنجازات التشكيلية بعيداً عن الطائفية أو المذهبية ، مما أدى تنفيذ بعض تلك الإنجازات من قبل فنانين من مذاهب أخرى ، لتكتسب قيمتها وصدقيتها ـ أن الموقف الحسيني إنساني صرف .
3- وفضلاً عن تسجيل الموقف الإنساني من قبل الفنان لمجزرة لم يشهد التاريخ بشاعتها بوصفها أدت إلى نتائج مروعة حالت دون استقامة العدل في المجتمعات اللاحقة وتفشي التدني الأخلاقي حتى آلت إلى مجازر إنسانية كبرى تفوق مجزرة كربلاء من حيث عدد القتلى .
بينما استنتج الباحث ما يأتي :
1 _ تسامي الموقف الحسيني لدى مناوئيه بصورة تفوق الموالين له ، وقد جسده الفنان تشكيلياً .
2 _ تماس المنجز التشكيلي المعاصر مع الموروث الإسلامي بعيداً عن التسجيل أو التدوين.
3 _ حيادية الفنان وشفافيته غلبت على الأعمال المنجزة لاسيما عينة البحث .
4 _ لم يكن النتاج التشكيلي العراقي المعاصر غزيراً في توظيف المشهد الحسيني بواقعية تسجيلية بسبب الضغط السياسي ، مما أدى الفنان لأن ينحو حيال التأويل والتجريد.

الفصل الأول: الإطار العام للبحث

مشكلة البحث والحاجة إليه
إن الأسس التي ارتكز عليها الفن وتعد من مقوماته تولدت من العلاقة مابين المحيط بكل تنوعاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبين الفنان أو المتلقي من خلال الإنجاز الفني وما يؤول إليه من تفسيرات وتحليلات يطرحها ويستنتجها المتلقي . والفن بشموليته يستمد فاعليته الإبداعية من هذه العلاقة .
ومثلما يعد الفن من اصدق عناصر التوثيق في تسجيله اللحظة بمنظورها الواقعي أو الفلسفي أو الطقوسي ، فإن الفن العراقي لايحيد عن هذه المعادلة ، إذ سجل الممارسات الحياتية والتحولات الطارئة على الإنسان منذ عصور ماقبل التاريخ أو التدوين في الألف الثالث قبل الميلاد وأصدق في توثيقها لاسيما إن الفن والدين كممارسة حياتية وطقوسية هما الناقلان الأساسيان لسلوكيات المجتمعات القديمة إلى المجتمعات المعاصرة " لأن الفن والدين متعالقان مع بعضهما وتتحدد مرجعيتهما من أعماق التاريخ "( 2 ) .
وفي ضوء ذلك استطاع الباحثون دراسة المجتمعات على وفق ما جسدته الأعمال النحتية والفخارية والجدارية والعديد من المخطوطات المتوارثة . والفنان بدوره سعى إلى استنهاض روحية تلك السلوكيات المتناقلة محاولاً عصرنتها فيما تبث من قيم جمالية وفكرية ، أُنتجت منها الأعمال الدرامية والمسرحية والحركات الراقصة التي تشتغل بآلية معاصرة مقتفيةً روحية الأنظمة والأنساق القديمة .
والفن التشكيلي بوصفه فناً بصرياً أشتغل بهذه الآلية بتوظيف الفنان معظم التحولات ولعل من أهم التحولات ، الوقفة الرمز لسيد الشهداء (الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ) عليهما السلام مع نفر قليل من خيرة أبناء الإنسانية قبالة الطغيان الأموي عام 61 هجرية 680 ميلادية .
ومثلما كان الفنان التشكيلي العراقي شديد الحساسية في تصديه للمواقف الإنسانية عبر إنجازه الفني ، بقيت واقعة كربلاء حاضرة في ذهنيته بقيمها المتباينة في إنسانيتها مابين الخير والشر ، جسدها الفنان بعمق لا لتسجيل الواقعة حسب إنما يرى فيها تلك الدروس المعبرة التي رافقت الإنسان منذ وقوعها ولما تزل .
من هنا ارتأى الباحث طرح مشكلته على وفق النتاج الفني المنجز بفرض أن الفن التشكيلي العراقي المعاصر وبخاصة فن الرسم أشتغل في استشفاف الجوانب الجمالية والإنسانية لواقعة كربلاء بأساليب متعددة ومتباينة مهدت الباحث من التصدي لهذه المشكلة في ضوء تساؤلاته الآتية .
1- ماهي القيم الفكرية التي خلفها المشهد الحسيني في التشكيل العراقي ؟
2- ماهي القيم الجمالية والاتجاهات التقنية التي يبثها المشهد الحسيني في الرسم العراقي
المعاصر ؟
أهمية البحث
تتحدد أهمية البحث في رفد الدراسات الأكاديمية والجمالية بموضوعة قراءة الفنان التشكيلي للمشهد الحسيني جمالياً فضلاً عن تعريف المتلقي بالقيم الجمالية والتقنية للرسم العراقي المعاصر في تصديه المشهد الحسيني.
أهداف البحث
يرمي الباحث إلى الكشف عن المشهد الحسيني وانعكاسه في الرسم العراقي المعاصر .
حدود البحث
يتحدد البحث بالفترة الزمنية لواقعة كربلاء في شهر محرم عام 61 هجرية . كما تشتمل حدود البحث الفترة مابين 1950 ميلادية حتى عام 2000 ميلادية بالنسبة للرسم العراقي المعاصر .
ويتحدد بعدد من الفنانين العراقيين الذين وظفوا المشهد الحسيني في منجزاتهم التشكيلية



الفصل الثاني: الإطار النظري

المبحث الأول : واقعة كربلاء ، تأريخياً
بدأت تباشير واقعة كربلاء بعد مقتل الإمام اعلي بن أ بي طالب ( ع ) في 21 رمضان سنة
40 هـ واشتداد النزاع بين الإمام الحسن بن علي ( ع ) ومعاوية بن ابي سفيان لتؤول المعادلة إلى اختلال نسيج المجتمع بفعل التناقضات التي أفرزتها المرحلة السابقة وتمخضت عن ثلاثة حروب ضد خليفة المسلمين الإمام علي ( ع ) وهي معارك ( الجمل وصفين والنهروان ) ( 3 ) فتنامى معسكر معاوية وتزايد بفعل الهبات والعطايا وعملية شراء الذمم التي مارسها .
انتهت النزاعات إلى صلح شكلي ومشروط بين الإمام الحسن ومعاوية، لم يلتزم معاوية بأي بند من بنود الاتفاق فيقول " ألا وقد منيت الحسن أشياء، وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي، لا أفي بشيء منها له " ( 4 ). فدبر معاوية المكائد لقتل الإمام الحسن ( ع )، حتى استشهد مسموماً في 50 هـ لينصب معاوية ابنه يزيد خليفة على المسلمين من بعده مما أثار حفيظة المؤمنين ، وبعد موت معاوية في رجب سنة 60 هـ واستئثار يزيد بالسلطة قرر الإمام الحسين ( ع ) مجابهة تسلط يزيد لمعرفته مآل الموقف السياسي المتردي عند تولي المارق يزيد شؤون الأمة لأنه لا يدرك عمق الخلافة الإسلامية وأخلاقياتها الدينية والدنيوية فضلا عن سلوكه الشائن طيلة حياته . لذا تحتم على سليل الرسالة السماوية الإمام الحسين ( ع ) التصدي ومحاربة النفاق وإعلانه الرفض لسلطة يزيد ، وقد تحددت مواقف الإمام علناً في رسالة وجهها إلى أخيه محمد بن الحنفية تكشف عن تردي الأوضاع السياسية والفكرية وعليه تحمل مسؤولياته تجاه معتقداته وأمته " لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماًُ ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق وهو أحكم الحاكمين"( 5 ) .
تحرك الإمام الحسين ( ع ) لاستقطاب المؤمنين لنصرته والعارفين بحقه ، حينها اشتعلت روح الثورة في العراق مركز الولاء لأهل البيت فاجتمع زعماء المعارضة إلى الإمام وقد طالبهم بإجماع الكلمة ووحدة الصف والوفاء بالعهد ، وقد اتضح الموقف وتحددت معالم الحركة الحسينية لاسيما بعد استغاثة أهل الكوفة عند قراءة مسلم بن عقيل سفير الحسين إلى العراق رسالة الإمام الحسين ( ع ) إليهم ومنها تحددت وجهة الإمام فحدد منطلق الثورة واختار المكان والظرف المناسب وكان العراق وتحديداً
( كربلاء ) المكان الممهد لذلك .
وفي العاشر من محرم سنة 61 هـ قدَم الإمام الحسين بن أبي طالب ( ع ) خيرة أصحابه وأهل بيته من الرجال المؤمنين بعدالة قضيتهم المرتبطة بمبايء السماء ، قدمهم قرابين واحداً تلو الآخر حتى أضحوا مشاعل تنير الدرب لسالكي الطريق الحق ، وبعد انتهاء المعركة بمقتل سيد شباب أهل الجنة " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " ( 6 ) إبن بنت الرسول محمد ( ص ) قطعت رؤوس الشهداء ، فتقاسم القتلة حملها إلى مقر الفساد في الشام حيث يقبع يزيد وندمانه معهم السبايا والأطفال ، تاركين جثث الشهداء على الرمال تحت الشمس المحرقة بعد أن سُلبت كل ممتلكاتهم فسُلب خاتم الإمام الحسين بعد قطع إصبعه .
" كأن يداً من وراء الضريـ ـح حمراءَ ( مبتورة الإصبع ) " ( 7 )
تمخضت المعركة عن جريمة كبرى تناثرت فيها أجساد ما يقارب سبعة وسبعون من آل بيت النبي ( ص ) وخيرة أصحابه فبقيت النساء والأطفال تلوذ في الصحراء هاربة من المجرمين وهم يهومون بسلبهن من كل ما عليهن وضربهن وقد أحرقوا خيامهن التي تؤويهن حتى سار الجيش بالضعائن إلى الكوفة ومن ثم إلى الشام ولقاء رأس الشر يزيد بن معاوية ومن ثم أعادوهن إلى كربلاء المقدسة ومنها إلى مدينة الرسول ( ص ) ليقيموا العزاء في بيوت خلت من الرجال ، البيوت التي نزل فيها القرآن ومنها اهتدت البشرية بهدي السماء ( 8 ) .

المبحث الثاني : القيم الفكرية والمرجعية للمشهد الحسيني في تحفيز الفن التشكيلي
لا ريب أن الصراع الأبدي بين النقيضين ( الخير والشر ) تواجد حيث تواجدت الحياة ، ولعل من أقدم الصراعات الإنسانية على سطح الأرض تمثلت بقتل قابيل لأخيه هابيل ، قال تعالى " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ { } لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " كتعبير عن نوازع الشر في الاستحواذ ومحاولة إقصاء وتحجيم قيم الإنسانية الخيرة ، وأستمر الصراع ولن ينتهي حتى قيام الساعة وتولي الشخص المصلح زمام الأمور في هذه الأرض وتنظيفها من أدران السوء ، لاسيما أن الإيمان بالمصلح يمثل عقيدة معظم المذاهب والاتجاهات الدينية والعقائدية وإن اختلفت الطروحات حول ظهوره أو ولادته وإنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ، وإنه هو الإمام الوارث الذي تتحقق فيه وراثة الصالحين قال تعالى " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " 
إن الإنسانية ارتقت مع ولادة الأنبياء والرسل بوصفهم المخلَصين والمخلِِصين لله خلقاً وعبادة يتبعهم الأوصياء والصالحين ، ويمثل خاتم الأنبياء محمد ابن عبد الله (ص) خيرة الأنبياء والرسل وآله خير البشر إذ اصطفاهم الله سبحانه وتعالى وفضلهم على خلقه وطهرهم من الرجس " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا "  وكما تعرض أنبياء الله سبحانه للضغط والتعذيب والقتل ، كذلك تعرض الصالحين إلى العذاب فنالهم القتل والإقصاء والتهميش والتحريف على ألسنتهم وأقوالهم . فجهز الشر أقلامه الرخيصة الموبوءة في التصدي لمناقبهم ، وتعد واقعة كربلاء من الوقائع الأشد تعرضاً لأقلام المغرضين والنواصب والمغرَرين بغية النيل من قيمها المتسامية أوأدلجتها على وفق مناهضة مساراتهاالحقة ، هذه المسارات التي بقيت مشعلاً يهتدي به المصلحون والداعون للحرية مع إن بعضهم لايدين بالإسلام ومنهم المناضل الهندوسي غاندي " تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر " 
أخذت واقعة كربلاء أهميتها الأخلاقية من استباحة حرمة رسول الله (ص) في أهل بيته الذي تنبأ بما سيحدث فأخبر أهل بيته وأصحابه بما سيؤول إليه أمر الدولة الإسلامية بعد محاولة تهميش أهل بيته وإقصائهم فكان الحزن يعتصر قلبه وهو يرى ابن بنته الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام ، فيقبله في نحره بينما يقبل أخيه الأكبر الحسن عليه السلام في فمه ( 9 ) . كما كانت أحاديثه في أمر واقعة كربلاء كثيرة معظمها يشير إلى أن الإمام الحسين ينزل في مدينة كربلاء مع أهل بيته وخُلَص أصحابه بعدد لايتجاوز الثمانون في قبالة جيش يزيد بن أبي سفيان الحاكم الأموي بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص بتعداد يفوق الثمانون ألف مقاتل ( 10 ) .
إن إستذكارات الرسول ( ص ) لواقعة كربلاء تعد إستشرافاً لما ستؤول إليه الدولة الإسلامية بعد وفاته ، فكثرت أحاديثه في ضرورة إتباع أهل بيته لأنهم الضمان والأمان ، وإن عاقبة مخالفتهم تؤدي إلى وقوع الدولة في التناحرات القبلية إلى جانب وقوعها في مدارك التدخلات الخارجية . كما إن إستشراف الرسول ( ص ) في نهضة الشخص المصلح حُصرت في أهل بيته وفي نسله الطاهر . قال رسول الله ( ص ) " لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي يملأها عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً " ( 11 ) .
لقد أهلت الأطماع والنفوس المريضة إلى محاربة آل البيت وتشريدهم وقتلهم على فرض التعصب القبلي ـ أن البيت الهاشمي لايمكن أن يستأثر بالنبوة والخلافة ـ ورغم علمهم بصدق النبي ( ص ) عمدوا إلى محاربة أهل بيته وقتلهم بالسيف أو بالسم .
هذه القيم التي دعا إليها الرسول وأهل بيته لم تكن بدعة من عندياتهم ، إنما هي أوامر سماوية تتبناها الإنسانية لرفعتها وبها تحفظ حرمة الدم البشري من الهدر ، فأصبحت معركة كربلاء ( عاشوراء ) إيذاناً إنسانياً وأخلاقيا في رفض كل مظاهر العبودية والرق في كل العصور التي أعقبتها ، وقد استل الفن التشكيلي العراقي المعاصر تلك القيم وعدها له مرجعاً فكرياً لتلاقيه معها في الهدف والغاية ، وبقي الفنان يستنبط قيمه الشفافة والجمالية من تداعيات المعركة ومواقف المتحاربين بالضغط على ما ينافي سمو الأخلاق والمبادئ واستذكارها .
إن الفنان التشكيلي العراقي المعاصر يرى في واقعة كربلاء مساحة واسعة تمد بظلالها على معظم الأحداث التي شهدتها الإنسانية بعد الواقعة لاسيما أحداث الساحة العربية وإرهاصات التردي في بنية المجتمع ، فسعى إلى تشخيص هذا التردي بوسائل عدة اقتضتها المرحلة ، فالحروب والاحتلال والتقسيم كلها علامات فارقة في جسد المجتمع العربي جسدها التشكيليون بتقنيات متباينة واتجاهات تشكيلية مختلفة وبوسائل اعتمدت المادة والخامة عبر النحت والخزف والرسم ، فيرى أن الشهادة بمجملها ترتكز إلى شهادة الإمام الحسين ( ع ) لأنها موقف إنساني وأخلاقي جاد فيه الشهيد بما يملك ، فالشهادة في العقلية المسلمة تتسامى كما تتسامى في العقائد الأخرى . من هنا امتدت خطوات الفنان التشكيلي لتأخذ من مفهوم الشهادة خطاباً جمالياً أغنى التشكيل العراقي المعاصر ليعزز الخطاب الفكري.
وتأسيساً على هذا المفهوم ظهرت إنجازات فنية لمعظم الفنانين العراقيين منذ الرواد حتى الفنانين الشباب . فقد حاكى الراحل جواد سليم الشهادة وبحثها عن الحرية في رائعته ( نصب الحرية ) كما تلمس الفنان فائق حسن مفهوم الشهادة في ( بقايا مناضل ) كذلك صور محمود صبري الشهادة في لوحته ( نعش الشهيد ) وهاشم حنون في ( شهادة مناضل ) وجسد الخزاف سعد شاكر قيمة الشهادة في قطعته الخزفية ( الفدائي ) وإسماعيل فتاح الترك وخالد الرحال في إنجازاتهما النحتية ، ومنه فإن الحركة التشكيلية العراقية المعاصرة قد زخرت بالإنجازات التي تستلهم الشهادة والتضحية بالنفس التي استمدت معانيها من المشهد الحسيني وقيمه ( 12 ) .

الفصل الثالث : إجراءات البحث
_ المنهج المستخدم : تبنى الباحث المنهج التاريخي والمنهج الوصفي .
_ أداة البحث : الملاحظة وهي الأداة التي استخدمها الباحث .
_ مجتمع البحث : منجزات الرسم التي وظفت المشهد الحسيني ( واقعة كربلاء ) .
_ عينة البحث : اقتصرت على ( 3 ) ثلاث لوحات رسمت بالألوان الزيتية لـ ( 3 ) ثلاث فنانين هم الراحل كاظم حيدر ورافع الناصري وماهود احمد .

أسباب اختيار العينات : اختار الباحث عيناته قصدياً على وفق ما يأتي
1 ـ إن الأعمال المنتقاة تعود إلى نخبة من الفنانين التشكيليين العراقيين المعاصرين .
2 ـ تباينت الأعمال في الإتجاه الفني والتقنية .
3 ـ تمثل الأعمال خلاصة التجارب الفنية التي تطرقت للمشهد الحسيني في المرحلة الماضية .

تحليل العينات

عينة (1) رافع الناصري
منجز بالألوان الزيتية نفذه الفنان رافع الناصري متتبعاً أساليب التضحية في تعزيز قيم الإنسانية والفوز بما تؤول إليه من رقي روحي وهاجس استشرافي في تأطير تلك القيم بالشهادة بوصفها أسمى المراتب التي تزيد من تهذيب النفس وتطويعها في مقارعة الظلم والطغيان والجود بالنفس بما لاتصل إليه أية تضحية أُخرى " … والجود بالنفس أقصى غاية الجود " ( 13 ) لاسيما أن الشهادة وإن كرمتها الكتب السماوية والأديان الموحدة برمتها إلا أن النظريات الوضعية مجدتها ولما تزل رغم وثنيتها أو وجوديتها .
يتأسس المنجز من قيم جمالية توخاها الفنان عبر تقنية مزدوجة كالتجريد والاختزال في اللون لاسيما في النصف الأعلى من اللوحة ، فضلاً عن تبنيه المباشرة في الطرح بإضافة كتلة المخطوطة العربية بوصفها جملة متعارفة في الوسط الاجتماعي ، بل إن هذه العبارة ( يا أبا عبد الله يا مظلوم )  تكاد لاتغيب عن بيت من بيوت الطائفة التي تسير على مذهب أهل البيت عليهم السلام بل يتعدى وجودها إلى بيوتات المذاهب الأخرى في العراق ، وفوق كل ذلك سعى الفنان إلى المزاوجة مابين التجريد كتقنية بهدف توفره العبارة للمنجز تعزيزاً للمنظور الجمالي من جهة وتقريباً ومشاركة وجدانيةً لما تمثل هذه الرقعة من احترام وتقديس لدى المجتمع العراقي المسلم التي افترضها حمراء بفعل اصطباغها بالدم وبصورة عامة فإن المنجز برمته يمثل جسداً مسجى على الرمال مما يقسم المنجز إلى قسمين أعلى واسفل يتناغمان في التكوين بتوازن بنائي مستقر ( نصف الدائرة – الشمس - المستطيل ـ الرقعة الخطية ) إلا أنهما يتباينان في الرؤية الفكرية بطرح افترضه الفنان مابين الأرض ( الفعل المادي ) والسماء ( الشمس أو الفعل الروحي ) وما يتصل بينهما الفعل المتسامي والعروج إلى السماء روحاً صافية ، كما يتصور الباحث في رؤيته المساحة الزرقاء وهي تستقر على شريط أسود أكثر من دلالة منها بؤس معسكر عمر بن سعد عند حجبه الماء عن معسكر الإمام رغم وفرته في منطقة القتال كنوع من الإزدراء الذي يؤطر معسكر سعد ، هذا من جانب أما الآخر فقد يرى الباحث إشارة تقوسات المنطقة إلى الخيام التي أفرغها الأعداء من الرجال المؤمنين فأشار لها بالسواد الذي يؤطر المساحة الحمراء
تشير الرقعة بدلالة موقعها أسفل المنجز تحيطها المساحة الحمراء إلى حالة التقديس في مشابهتها المرقد الشريف المكان الذي دفن فيه الإمام الحسين ( ع ) .

عينة (2) ماهود احمد
منجز بالألوان الزيتية نفذه الفنان عام 1972 تحت عنوان (الشمر أو الدجال ) وبتوصيف بسيط لآلية الإنجاز أعتمد الفنان المركزية في إخراج منجزه إذ سعى إلى وضع شخصية الشمر في المركز حاملاً بيده رمحاً علقت عليه رقعتان مثلثتان رسم على أحدهما جمجمة والأخرى سيفاً ، وقد لون شخصية الشمر بالأحمر لما للون الأحمر من دلالات إذ افترض فيه البؤس اللاأخلاقي والعنف اللاإنساني مؤشراً حقيقة الشخصية ، عارفاً بهاجس المتلقي حيال الشخصية . في حين أحال الخلفية BACKGROUND إلى حالة من الظلامية وصفاً للقهر والاضطهاد التي تعرض له أهل بيت النبي (ص) بعد قتل رجالهم خيرة الخلق في ذلك الزمان إذ أن الفنان سجل لحظة ما بعد قتل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه . فأعتمد اللون المعتم والأصفر الغامق تعبيراً مباشراً لتلك الحالة .
الفنان وكعهده في رسم وجوه الشخصيات النسائية يتتبع الوجوه السومرية المدورة والمتعبة استذكاراً شعورياً أو لاشعورياً للوجوه التي تآلف معها في مدينته (ميسان ) وما تعانيه من قسوة الحياة وشظف العيش .
هذه الواقعية في رسم الوجوه سعى الفنان إلى تجاوزها عند رسمه وجه الشمر فصوره بأبشع صورة لدرايته بنفور المتلقي من هذه الشخصية لما تصطبغ من بشاعة تاريخية .
يرتكز المنجز برمته إلى مزاوجة القيمة التاريخية للمشهد الحسيني بكل تناقضاته مابين العنف وتردي الأخلاق الذي يبدو بارزاً في معظم المجتمعات مع هزالته أمام الذات الشخصية للإنسان وبين سمو الأخلاق مع انحسارها في تلك المجتمعات واختصاره على ثلة مؤمنة بقدرها قوية بعزيمتها في التصدي . لذا أطر الفنان توجهاته لمدينته البائسة بأحزان المشهد الحسيني . فهي بالرغم منها معركة خاسرة إلا أنها أفرزت قيماً شامخة ، جسدها الفنان جمالياًَ عبر بصيص النور ( السراج الذي تحمله المرأة ) . فضلاً عن عنفوان المرأة الأخرى وهي تواجه مصيرها دون وجل ، فصورها مفتولة العضلات بحجم مبالغ فيه .
المنجز بعمومه يمثل وثيقة واقعية لمشهد يتعذر تصويره واقعياً

عينة ( 3 ) كاظم حيدر
منجز زيتي نفذه الفنان ضمن سلسلة من أعماله التي عرضها عام 1969 في معرض تحت عنوان (ملحمة الشهيد ) ، وقد طرح الفنان مفهومه للشهادة من خلال المشهد الحسيني وما يفرز من مآسي تعرض لها الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الأبرار . كما عرض الفنان التدني الأخلاقي والقيم البائسة التي تؤطر الجانب الآخر متمثلاً بمعسكر الأمويين (يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ) وقادة جيشه عمر بن سعد بن أبي وقاص وشمر بن ذي الجو شن وغيرهم .
يصور المنجز اللحظة التي أعقبت قتل الإمام الحسين عليه السلام إذ صور رأسه يقطر دماً يرفعه الشمر بيده ليكشف الفنان أبشع ممارسات جيش يزيد ، التمثيل بجثث القتلى متناسين حرمة الأموات ومتناسين أحاديث الرسول العظيم (ص) في هذا الشأن " إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور " ( 16 ) فكيف بجسد ريحانة أشرف الخلق من الأولين والآخرين الرسول الكريم (ص) الذي يصف الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام بصفات تقارب صفات الأنبياء وأهمها " الحسن والحسين إمامان إن قاما وأن قعدا " ( 17 ) .
إن معالجة الفنان الجمالية للمشهد ارتكزت إلى أساليب شتى كالتصميمية في توزيع مفرداته على أرضية اللوحة فضلاً عن الاختزال في توزيع اللون مابين الألوان الحارة والحيادية (الأحمر والبرتقالي بتدرجاتهما والأسود )، كما عمد الفنان في تحديد شخوصه وهيكلتها على هيئة كتل نحتية معتمداً الوظيفية في هذه التقنية التي تعزز المضمون الفكري للمنجز إذ صور معسكر الإمام الحسين (ع ) في الجهة اليمنى يتقدمها شخص ضخم الجثة حاملاً السيف ( ذو الفقار ) سيف الإمام علي بن أبي طالب (ع ) لغاية مرجعية تاريخية وفكرية من خلال اتصال حق الإمام الحسين ( ع ) بحق أبيه ( ع ) وحق جده (ص ) في الكفاءة والقوة " لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار " ( 18 ) فضلاً عن الوظيفية في تصوير عائلة الإمام في أبسط صورة كتقديس للعائلة من جانب فضلاً عن تصوير مرجعية الروايات الواردة أن نساء أهل بيت النبي (ص ) ليس لهن إلا الخدر والصون والعفاف إذ أن الروايات تجمع أن أحداً لم يطلع عليهن إلا بعد قتل الحسين ( ع ) .
ومن جانب آخر سعى الفنان إلى خلق مناخ متوشح بالسواد والدم في توجه منه مشاركة المتلقي عبر تأطير المشهد ( بالعفوية المقصودة ) لأن المشهد يمثل أعنف الحروب وأشرسها في ذلك الوقت في محاولة لرفض الفنان للحروب مهما تكن .
وفضلا عن التصميمية كتقنية نفذها الفنان فإن التقنية الأخرى التي تدعم الموضوع وظيفياً هي التعبيرية أو الوحشية عبر الحدة في اللون والخط وصراحتهما ( الأحمر والأسود ) إقتراباً من تقنية رائد المدرسة الوحشية (ماتيس ) .
وعند إطلاع الباحث وتحليله إلى عدد غير قليل من أعمال المعرض المذكور ( ملحمة الشهيد ) فإن الفنان في معظم معروضاته لجأ إلى التجريد في عرض رؤيته للواقعة إلا إنه في هذا العمل سعى إلى التشخيص مع تصرفه في النسب والتشريح.
وبجانب التصميمية والتعبيرية في اللون والخط أقترب الفنان من الرمز في توظيف مفرداته لاسيما شعاع الشمس الساقط بإندفاع نحو رأس الحسين ( ع ) بوصفه القيمة المثلى ، كذلك أطلق الفنان عنانه للمفهوم المتراكم في ذهنيته حول العدد المتباين بين المعسكرين والدروع التي تمنطق بها جيش الأمويين دون معسكر الحسين ( ع ) وقد لجأ إلى تقنية الحك والتخديش للدروع ليفرض المفهوم القاسي الذي أصطبغ به جيش الأمويين .
ومن كل ذلك لابد من الإشارة إلى أن الفنان لم يحد عن الوظيفة بصفتها قيمة فكرية ولم يغفل الجانب الجمالي في توظيف بنية العمل الفني في الخط واللون أن لهما بعداً وظيفياً وجمالياً .

الفصل الرابع: النتائج والاستنتاجات
النتائج ومناقشتها
مما تقدم من تحليل العينات خلُص الباحث إلى النتائج الآتية :
1 ـ معظم الأعمال صورت المشهد الحسيني بعد انتهاء القتال بين المعسكرين ، أي بعد مقتل الحسين وأصحابه عليهم السلام ، لذا تباينت تقنيات الفنانين في تنفيذ منجزاتهم ، فإنها افتقدت إلى تسجيل الحدث حال وقوعه مابين التعبيرية والتجريد والرمزية دون الإقتراب من الواقعية أو التسجيلية . فصور الفنانون إنجازاتهم من خلال دراسة الألوان والخطوط والكتل على وفق يتماشى والاتجاه التقني المناسب ، فالألوان المتضادة والترابية (الأوكرات ) فضلاً عن اللون الأحمر وللأسود كلها ألوان تؤطرالمناخ العام للمنجزات التشكيلية .
2 – لم تنظر النتاجات التشكيلية العراقية المعاصرة إلى المشهد الحسيني بطائفية أو مذهبية لقناعات الفنان بأخلاقية موقف الإمام الحسين بن علي ( ع ) وأصحابه ، مما أدى إلى تنفيذ بعض الإنجازات من قبل فنانين من مذاهب أخرى لتكتسب القناعة قيمتها وصدقيتها ـ أن الموقف الحسيني إنساني صرف . بل إنها تعدت المذهبية إلى أصحاب المواقف من ديانات أخرى غير موَحدة.
3 - إن واقعة كربلاء وما تمخض عنها من مآسي مروعة أهلت الفنان التشكيلي من تتبع النكوص الأخلاقي في بنية الإنسان المنحرف عن جادة الخُلق الرفيع ، فصاغ منها توجساته من تركيبة المجتمع الذي يعاصره ليؤولها إلى خطابات تشكيلية رافضة للتردي والانحطاط ، وإن كانت لا تُحسب ضمن هيكلية الأعمال التي قرأت المشهد الحسيني إلا أنها أعمال لا تخلو من تأطيرها بالمشهد الحسيني . فالشهادة وإن عُدت موقفاً نسبياً يقرأه ويؤوله المجتمع حسب توجهه فإن شهادة الإمام الحسين ( ع ) كموقف أثرت الشهادة بقيم المبادئ .
4 - رغم المأساة التي خلفها المشهد الحسيني لم تكن رؤية الفنان قاصرة بتأطير منجزه الفني بهذه الآلية فسعى إلى القراءة الجمالية للمنجز وتنفيذها بوعي جمالي لم يقرأ المشهد كتاريخ مجرد .

الاستنتاجات
على وفق النتائج التي يبثها تحليل النماذج ( العينات ) توصل الباحث إلى الاستنتاجات الآتية:
1 - أخذ المشهد الحسيني قيمه من موقف الإمام الحسين ( ع ) في تصديه لقوى الشر مما أدى إلى تساميه لدى مناوئيه بصورة تفوق الموالين له ، لذا كان تجسيد الفنان للمشهد الحسيني في خطاب تشكيلي جمالي .
2 - لقد تماس المنجز التشكيلي لاسيما الرسم مع الموروث الإسلامي في تصديه لقراءة المواقف المبدئية وتشخيصها بعيداً عن التسجيل أو التدوين بوصفها أزمة في الزمن الماضي.لإعتقاده الجازم بديمومة الموقف الحسيني إلى ما لا نهاية .
3 - إن هيكلية الأعمال المنجزة ( عينة البحث ) أحتوت المشهد الحسيني لتؤطره بأخلاقيات الفنان الذي يستتبع القيم بحيادية وشفافية .
لم يكن النتاج التشكيلي العراقي المعاصر غزيراً في توظيف المشهد الحسيني بواقعية تسجيلية بسبب الضغط السياسي ، والخوف من تداعيات معركة كربلاء ( موقف الإمام الحسين وأصحابه ) وما تمليه من أثر في شخصية الإنسان ، مما أدى الفنان لأن ينحو حيال التأويل في التقنية الإنجاز والنزوع نحو التجريد والاختزال أو تأطير المنجز بمفهوم الشهادة التي تستبطن شهادة الحسين ( ع ) .


التوصيات
يوصي الباحث بما يأتي :
1 - أرشفة الإنجازات التشكيلية والجمالية التي قرأت المشهد الحسيني.
2 - جمع الأعمال التي عكست المشهد الحسيني ووضعها في قاعة مخصصة أو في متحف خاص .


المصادر
ـ القرآن الكريم.
2 ـ هربرت ريد . معنى الفن . ترجمة سامي خشبة . ط2 . دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد 1986 . ص92 .
3 ـ عبد الفتاح المقصود . علي بن أبي طالب ( ع ) . ط1 . طبع بدار الكتاب العربي بمصر . السنة بلا .
4 ـ الشيخ المفيد.الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد.ج2 .تحقيق مؤسسة آل البيت . دار المفيد للطباعة . السنة بلا .ص14 .
5 ـ ابن شهر آشوب . مناقب آل أبي طالب . ج3 مجلد 3 . تحقيق لجنة من أساتذة النجف الأشرف . مطبعة الحيدري 1956 .ص 241 .
6 ـ الشيخ العلامة زين المهديين محمد بن الفتال النيشابوري . روضة الواعظين , ج 2 تحقيق غلا محسين المجيدي ، مجتبى الفرجي . مطبعة تكارش . إيران 1423 هـ 2003 م . ص 308 .
7 ـ محمد مهدي الجواهري . ديوان شعر. مجلد 2. دار العودة . بيروت . ط3 . 1982 . ص267 .
8 ـ الشيخ العلامة عز الدين بن أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بان الأثير . الكامل في التاريخ . مجلد /4 . دار صادر للطباعة والنشر . دار بيروت للطباعة والنشر . بيروت . 1385 هـ - 1965 م . ص 80 – 89 .
9 ـ د. محمد بيومي مهران. منتخب فضائل النبي وأهل بيته من الصحاح الستة وغيرها من الكتب المعتبرة عند أهل السنة ط2. الغدير للطباعة والنشر والتوزيع . لبنان 1423 هـ 2002 م. ص 287 ، 190 ، 322 .
10 ـ أبو مخنف . مقتل أبي مخنف في مقتل الإمام أبي عبدالله الحسين . النجف . السنة بلا. ص 51 ، 582 .
11ـ الشيخ العلامة زين المهديين محمد بن الفتال النيشابوري . المصدر السابق ج 2 . ص 559 .
12 ـ رائد فرحان إسماعيل . صورة الشهيد في الرسم العراقي المعاصر . رسالة ماجستير غير منشورة . جامعة بغداد . كلية الفنون الجميلة . 1991 . ص 26 .
13 ـ د . جميل سلطان. مسلم بن الوليد صريع الغواني . ط2 . دار الأنوار للطباعة . بيروت 1967 . ص 119
14 ـ سلام الشيخ. جدلية العلاقة بين الفن العراقي والموروث الشعبي . جريدة طريق الشعب. العدد 41 . 2-2 . السنة 69 .9 ، 10 . آيار 2004 . ص 6
15 ـ أبو مخنف . المصدر السابق . ص 63 .
16 ـ علي بن أبي طالب . نهج البلاغة . ج 3 ص 78 . شرح الإمامة محمد عبده . منشورات مكتبة النهضة . بغداد . السنة بلا. ص 558 .
17 ـ الشيخ العلامة زين المهديين محمد بن الفتال النيشابوري . المصدر السابق.ج 2. ص 358 .
18 ـ السيد محمد إبراهيم الموحد . الإمام علي في الأحاديث النبوية . ط3 . مطبعة باقري إيران . 1422 هـ 2002 م . ص47


2006